لا زلنا نعیش اشراقات الأیّام المبارکة لذکرى النصف من شعبان المعظم، ذکرى ولادة صاحب العصر والزمان (أرواحنا فداه)، وإنّی إذ اُبارک لکم جمیعاً أیّها العلماء والفضلاء والمسؤولین فی حوزات المحافظات فی البلاد هذه الأیّام الکریمة، وأتمنى أن یقبلنا الإمام الحجّة جنوداً أوفیاء وأصحاباً مخلصین ومتفانین فی خدمته.
تنعقد هذه الجلسة المهمّة لغرض مهم، وهو تفعیل التلاحم والتعاون بین الحوزات والعلمیة فی جمیع انحاء البلاد وترشید المسار الکمی والکیفی لهذه المؤسسات العلمیة واجتناب نقاط الضعف وترسیخ نقاط القوة، وهذا ما أشرت إلیه سابقاً فی خصوص تأسیس الحوزات العلمیة فی العالم الإسلامی.
تعود إلى زمن رسول الله(صلى الله علیه وآله) وننظر إلى الحوزة العلمیة فی ذلک الزمان، ففی ذلک الزمان الذی نزلت فیه الآیة 122 من وسورة التوبة (فلولا نفر من کل فرقة طائفة لیتفقهوا فی الدین ولینذروا قومهم إذا رجعوا إلیهم). آیة النفر هذه کانت بمثابة الحجر الأساس لتشکیل الحوزات العلمیة حیث یقول تعالى: «فلولا نفر من کل فرقة طائفة» على المؤمنین أن یتفقهوا ویؤسسوا الحوزات العلمیة، لا سیما أنّ الآیة تتضمن ثلاث وجوبات:
الواجب الأوّل: هو النفر (فلولا نفر).
والواجب الثانی: التفکر فی الدین «لیتفقهوا فی الدین».
والواجب الثالث: هو الانذار «لینذروا قومهم إذا رجعوا إلیهم».
هذه الواجبات الثلاثة تتواشج فیما بینها لتشکل نسقاً واحداً لتحقیق الهدف، ونعلم أنّ وجوب المقدمة دلیل على وجوب ذی المقدمة، ووجوب ذی المقدمة دلیل على وجوب المقدمة. الحجر الاساسی للحوزة العلمیة قد وضع فی عهد رسول الله(صلى الله علیه وآله) ثمّ استمرت فی مهمتها، ومن جهة اُخرى نستطیع القول أنّ الاساس الأوّل للحوزات العلمیة قد وضع فی عهد الإمامین الباقر والصادق(علیهما السلام) وقد ذکر الشیخ الانصاری(رحمه الله) روایة فی الرسائل بهذا المضمون، وهو أن الروای یقول: کنت فی مسجد رسول الله(صلى الله علیه وآله) وسمعت أربعة آلاف نفر کلّهم یقول: قال الصادق وقال الباقر، ویعلم من هذا أنّ الإمامین الباقر والصادق(علیهما السلام) قد وضعا اللبنة الأساسیة للحوزة العلمیة حیث استفادا من الفرصة المتاحة فی ذلک العصر فشیدا دعائم الحوزة العلمیة فی مسجد النبی(صلى الله علیه وآله)، وشیئاً فشیئاً اُسست حوزات علمیة فی الکوفة متزامنة لتلک الحوزة فى عصر الأئمّة، والاحصائیات الرجالیة تشیر إلى أنّ أکثر أصحاب الإمام الصادق(علیه السلام) کانوا من أهل الکوفة یأتون إلى الحج وینقلون عن الإمام الصادق(علیه السلام) أحادیث کثیرة إلى أصحابهم فی الکوفة، وبهذا کانت الکوفة أحد المراکز العلمیة لشیعة أهل البیت(علیهم السلام)، ومن لحاظ آخر یمکننا أن نرجع تأسیس الحوزات العلمیة إلى زمان الشیخ الطوسی(رحمه الله)، إن شأن ومقام الشیخ الطوسی(رحمه الله) لا زال مجهولاً ومقامه أکثر ممّا نتصور، کان المرحوم البروجردی عندما یذکر اسم الشیخ الطوسی(رحمه الله) یعظمه کثیراً ویقول: إنّ الشیخ الطوسی کان صاحب رأی فی جیمع علوم الإسلام وله مؤلفات ثمینة ولا یوجد من أمثاله إلاّ القلیل، فقد یکون لدى البعض علوماً ومعارف کثیرة ومتنوعة، ولکنهم یبرعون فی أحدها دون الاُخریات، لکن الشیخ الطوسی(رحمه الله) کان له الرأی الأوّل فی جمیع العلوم: الرجال، الحدیث، الفقه، التفسیر و...
هذا الرجل العظیم حضر عند الشیخ المفید(رحمه الله) لمدة خمس سنوات فی یغداد و27 سنة عند السید المرتضى، وبعد السید المرتضى والشیخ المفید عاش 24 سنة، 12 سنة فی بغداد و12 سنة فی النجف الأشرف، ولما شاهد الأعداء المتعصبون أنّ الشیخ الطوسی(رحمه الله) قویت شوکته فی بغداد وصارت المذاهب الاُخرى فی المحاق بحیث أن أتباع هذه المذاهب أصبحوا یأخذون أحکامهم ویسألون مسائلهم من الشیخ تحرکت فیهم کوامن الحسد وأدّى ذلک أن یترک الشیخ بغداد بعد أن اُحرقوا کرسی تدریسه المعترف به من قبل الحکومة وأحرقوا کذلک کتبه، فرأی الشیخ أنّه إذا بقی فی بغداد فسوف تثور فتنة بین الشیعة والسنة فأسس الحوزة العلمیة فی النجف، وهذه من الاُمور التی یکون فیها العدو سبباً للخیر إذا أراد الله.
ونحن شاهدنا على امتداد التاریخ ماذا قدمت الحوزة العلمیة فی النجف من انجازات علمیة عظیمة، ندعو الله بکل وجودنا أن یمحق قوى الضلال والجور فی العراق فتعود الحوزة العلمیة فی النجف إلى الحیاة کما فی السابق وأفضل، وکذلک الحوزة العلمیة فی قم کانت منذ عصر الأئمّة(علیهم السلام) واستمرت لحدّ الآن وخاصة باهتمام المرحوم الشیخ الحائری والسید البروجردی(قدس سرهما)، والآنّ وصلت الحوزة فی قم مرحلة متقدمة ویدرس فیها الآن طلاّب من 90 بلد من مختلف انحاء العالم، ویتلقون علوم آل محمد فی عش آل محمد لیتمکنوا ان شاء الله من ایصال رسالة آل محمد إلى العالم.
الاخوة قد تحملوا عناء کثیراً فی تأسیس الحوزات العلمیة، وقدموا تضحیات کثیرة، وصار هذا الارث بین أیدیکم أیها الأعزاء لنکون نحن جمیعاً من حماة هذه الموروث المقدس، ولنرى کیف نوصل هذا الجهد والموروث للأجیال القادمة.
نحن نواجه مشکلة مهمّة فی عصرنا الحاضر لم تکن موجودة فی السابق بهذه الدرجة من الشدّة، وهی الغزو الثقافی الذی یشنه قادة الدول العظمى ضد المؤسسات العلمیة والفکریة الدینیة والهدف من هذا الهجوم واضح جداً، لأنّهم یرون الإسلام یمثل العقبة الحقیقیة أمامهم فی هذه المناطق فان بإمکانهم انجاز العمل الذی لم یتمکنوا من انجازه فی 23 سنة خلال اسبوع واحد، إذا لم یکن هناک اسلام فی ایران وعقائد اسلامیة وجنود مضحین للإسلام فانّ هؤلاء سیحکمون سیطرتهم على ایران فی مدّة اسبوع واحد وشهر واحد، إنّ حجر العثرة أمامهم فی فلسطین وجنوب لبنان، وفی افغانستان وباکستان هو الإسلام، ولما رأوا أن الإسلام یقف فی طریقهم أخذوا ینفذون بشتى الوسائل إلى صفوف المسلمین، ولکنهم أدرکوا أنّ النفوذ فی صفوف الجیل الأوّل للثورة غیر ممکن فعلقوا امالهم على جیل الثورة الثانی، ولما رأوا أنّ هذا الجیل لم یتأثر بهم أیضاً قالوا أخیراً أنّ الجیل الثالث سیکون معنا حتماً، ولکنهم عندما یشاهدون الجیل الثالث هم قراء القرآن وحفاظه وطلاّب الحوزات العلمیة وأفراد التعبئة، وعندما یشاهدون الجیل الثالث المتألق یهدی مدالیته التی حصل علیها فی المسابقات العلمیة للقائد والقائد بدوره یهدیها لمتحف الإمام الرضا(علیه السلام) فعندها یصاب العدو بالاحباط والیأس مرّة اُخرى.
المراد من هذا الکلام أنّ الحوزات العلمیة الآن تواجه الأعداء الذین یرومون القضاء على الدین بأیة قیمة، فلهذا کانت مسؤولیة الحوزات الیوم أثقل من أی وقت مضى، إنّ المسائل السیاسیة فی العالم الإسلامی متواشجة مع المسائل الدینیة، هناک مسائل مختلفة مرتبطة بالمسائل الحوزویة، وهؤلاء الأعداء لأجل أن یتسلطوا على کلّ شیء فکروا فی اجتثاث جذور الحوزة وابعاد الشباب عن الحوزة وعن الإسلام والقرآن لیتمکنوا من تنفیذ مؤامرتهم المشؤومة، والمانع الحقیقی لهم هو هنا فی الحوزة، ومع الالتفات إلى هذا الأمر انتقل إلى مسائل آُخرى مهمة.
کما أشرت سابقاً فهناک قیم ومُثل فى الحوزات العلمیة ینبغی المحافظة علیها، فلا یوجد مثل هذه القیم فی أی جامعة أو مرکز علمی فی العالم، واحدى هذه القیم هو إکرام العلم لأجل العلم ولیس لأجل المدرک العلمی أو المنصب والعنوان، صحیح أنّ ضروریات العصر تستوجب أن یکون للطالب فی الحوزة شهادة تمکنه من المشارکة فی الجامعات والمراکز الاُخرى، ولکن تحصیل المدرک العلمی یختلف عن مسألة کون القیم مرتبطة بالشهادة ولیس بالعلم، یجب أن تبقى روحیة (العلم لأجل طلب العلم) حیة ونقیة حتى لدى هؤلاء الذین یحملون شهادات.
ومن القیم والمُثل السامیة فی الحوزات هو الإهتمام بالمسائل الأخلاقیة، الطبیب لیس مقیداً بالمسائل الأخلاقیة، نعم لدیه أخلاق طبیة، وهی محدودة جداً، والمهندس کذلک غیر مقید بالاخلاق وحتى الحقوقیین فی العالم هم غیر مقیداً بالاخلاق، ولکننا فی الحوزة نقول بلزوم اقتران الأخلاق مع العلم، علینا أن نضع نصب أعیننا الحدیث الشریف عن الإمام الصادق(علیه السلام) حیث یقول: إنّ العالم الذی لا یعمل بعلمه ولا یلتزم بالاخلاق تسقط مواعظه من القلوب کما تسقط حبات المطر من السحاب.
الملاحظة المهمّة فی هذا الحدیث أن قلوب الناس سوف لا تتفاعل مع مواعظ العالم بدون عمل ولا تتأثر بکلماته، وفی مقابل ذلک تکون قلوبهم فی مقابل العالم العامل مثل الأرض السهلة تبتلع قطرات المطر وتحیی وتنبت الزرع، ولکن عندما یرون عالماً ـ والعیاذ بالله ـ مطیعاً لهواه مخالفاً لأمر مولاه لا یجدون فی أنفسهم رغبة لسماع قوله، إنّ رأس مالنا هو النفوذ فی أفکار الناس، وعلیه یجب على الحوزات أن تهتم غایة الإهتمام بدروس الأخلاق، وأن تکون الأخلاق العملیة هی الحاکمة فی الحوزات فهی أهم من الأخلاق العلمیة والدراسیة وقلنا سابقاً إننا فی الحوزات ولأجل التفوق فی الدرس لابدّ من الإهتمام باُمور ستة: أولاً مطالعة الدرس، ثم استماع درس الاُستاذ، ثم المطالعة مرّة اُخرى بعد الدرس، ثم المذاکرة (المباحثة)، ثمّ کتابة خلاصة الدرس وبعدها إدامة الدراسة فی المراحل المتقدمة والتدریس فی المراحل الأدنى، وهذا الاُسلوب فی الدراسة یعتبر أحد أسرار الحوزة فی الاکتفاء الذاتی العلمی وکذلک یعدّ من اشکال ترشید القابلیات الجیدة، فاذا اجتاز الطلاّب هذه المراحل الست فسوف یکونون على مستوى عال من المهارة العلمیة، وسوف یلمع نجمهم اینما کانوا، ولکن إذا لم یتیسر العمل وفق هذا البرنامج، فلابدّ من المطالعة، والدرس، والبحث والتدریس بالمقدار الممکن الذی یجب توفره لدى کلّ طالب، وهذه احدى سنن ومیزات الحوزات العلمیة التی لم تتوفر فی أی جامعة أو معهد علمی وتعتبر مورد فخرنا واعتزازنا.
فی جامعات العامل تختفی العلاقة العاطفیة بین الاُستاذ والطالب، أمّا فی الحوزات العلمیة فغالباً ما یکون الاُستاذ معلم اخلاق وقدوة للطالب، وهذه العلاقة تبقى حتى بعد موت الاُستاذ فترى الطالب یزور قبر اُستاذه ویقرأ الفاتحة.
أمّا النقطة الثانیة: فهی أنّه لا ینبغی توهّم أنّ العلاقة بین الحوزة العلمیة فی قم والمحافظات الاُخرى هی علاقة الحاکم والمحکوم أو علاقة الاُستاذ والطالب، بل هی علاقة أخوین أحدهما فی المرکز حیث تکون تجاربه ومطالعاته أکثر، إنّ هؤلاء الاخوة الذین یعملون فی اللجنة العلیا لادارة الحوزة یتحملون مشاقاً کثیرة وقد کنت لفترة من الزمن أعمل معهم وأعلم کم یبذلون من الجهد فی هذه الدائرة، فهم یقومون باعداد البرامج والخطط، ویقع على عاتقهم الابحاث والتحقیقات، وترد علیهم مواضیع مختلفة من بقاع شتى وتحدث لهم تصوراً جدیداً، یعملون على برمجتها وارسالها إلى المحافظات بکل اخلاص، ومثل هذا الجهد یعدّ غنیمة للحوزات التی فی المحافظات، ومن الممکن أن یکون هناک بعض النقص فعلیهم الکتابة لهم بذلک ولکن لابد من تقدیر الجهود المبذولة هنا حیث تؤدی إلى وحدة المناهج والتعاون بین الطلبة.
على الطلبة الذین یأتون إلى قم أن لا یتوقعوا أن ما درسوه فی حوزاتهم غیر نافع لهم فی قم، فینبغی أن تکون البرامج متناغمة منسجمة، وما أحسن أن تکون قم خاصة بدروس البحث الخارج فقط، أن تکون قم جامعة للدراسات العلیا، فهذا یجنبنا التراکم فی عدد الطلاّب، وکذلک تزدهر الدراسة فی سائر المدن، وإنّی أرى من الواجب على جمیع أئمّة الجمعة، وبقیة العلماء من غیر أئمّة الجمعة أن أفضل عمل یقومون به هو تأسیس حوزات علمیة، فان للحوزات برکات کثیرة، فهی تحیی جمیع المناطق وتنورها بالعلم، نحن ننظر بعین الإجلال والإحترام للجهود المبذولة والعناء الذی تتحمله الإدارة العلیا للحوزة، وإنّی شخصیاً أشکر لهم سعیهم المخلص، وأتمنى من الله سبحانه أن یوفقهم لتکون أعمالهم على أکمل وجه، وبلا شک فإنّ هناک الکثیر من النقائص والمشاکل ویجب أن تزال کلها بحوله تعالى.
والنقطة الثالثة: علاقة الحوزات بالمسائل السیاسیة، نحن نعلم بوجود تیارات سیاسیة مختلفة وفی الأعوام الأخیرة استهلکت الصراعات السیاسیة الکثیر من الوقت والإمکانات على حساب الإهتمام بمشاکل الناس ولا أعلم کم ستستمر هذه الصراعات السیاسیة بین الخطوط والتیارات ویستمر بذلک النزف فی هذا البلد، ولکن ظاهر الاُمور یشیر إلى أنّ الحال سوف یستمر رغم أنّ الناس قد تعبوا.. إنا نواجه أعداء قد شحذوا لنا سیوفهم وأسنانهم والناس یتوقعون منا حلّ مشاکلهم، على المسؤولین أن یجلسوا على طاولة واحدة ویهتموا بمشاکل الناس