قراءة في فترة وجود آدم(ع) في الجنة

قراءة في فترة وجود آدم(ع) في الجنة


ينبغي أن ينضج آدم(ع) في هذا الجو إلى حد معين، وأن يعرف أصدقاءه وأعداءه، ويتعلم كيف يعيش على ظهر الأرض، نعم، كانت هذه مجموعة من التعاليم الضرورية التي تؤهله للحياة على ظهر الأرض.‌

قال تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَــِكَةِ اسْجُدُوا لاِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ).

لو أمعنّا النظر في آيات القرآن الكريم لألفينا أنّ موضوع السجود لآدم جاء بعد اكتمال خلقة الإنسان مباشرة، وقبل امتحان الملائكة.

إنّ الآية المذكورة تقرير قرآني واضح صريح لشرف الإنسان وعظمة مكانته، فكل الملائكة يؤمرون بالسجود له بعد اكتمال خلقته.

حقاً، إنّ هذا الموجود، اللائق لخلافة الله على الأرض، والمؤهل لهذا الشوط الكبير من التكامل وتربية أبناء عظام كالأنبياء وخاصة النبي الخاتم(ص) يستحق كل احترام.

نحن نشعر بالتعظيم والتكريم لمن حوى بعض العلوم وعلم شيئاً من القوانين والمعادلات العلمية، فكيف حال الانسان الأوّل مع كل تلك العلوم والمعارف الزاخرة عن عالم الوجود؟

 

بحثان

1ـ لماذا أبى إبليس؟ «الشيطان» اسم جنس شامل للشيطان الأوّل ولجميع الشياطين. أما «إبليس» فاسم علم للشيطان الذي وسوس لآدم. وإبليس ـ كما صرح القرآن ـ ما كان من جنس الملائكة وإن كان في صفوفهم، بل كان من طائفة الجن، وهي مخلوقات مادية.

باعثه على الامتناع عن السجود كبر وغرور وتعصب خاص استولى عليه حيث اعتقد أنّه أفضل من آدم، ولا ينبغي أن يصدر له أمر بالسجود لآدم.

كفر إبليس كان يعود إلى نفس السبب أيضاً، فقد اعتقد بعدم صواب الأمر الإلهي، وبذلك لم يعص فحسب، بل انحرف عقائدياً. وهكذا ذهبت أدراج الرياح كل عباداته وطاعاته نتيجة كبره وغروره. وهكذا تكون دوماً نتيجة الكبر والغرور.

وعبارة (كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) تشير إلى أنّ إبليس كان قبل صدور الأمر الإلهي إليه بالسجود، قد انفصل عن مسير الملائكة وطاعة الله، وأسرّ في نفسه الاستكبار والجحود.

2ـ هل كان السّجود لله أم لآدم؟ لا شك أنّ السجود يعني «العبادة» لله، إذ لا معبود غير الله، وتوحيد العبادة يعني أن لا نعبد إلّا الله. من هنا فإنّ الملائكة لم يؤدوا لآدم يعني «سجدة عبادة» قطعاً، بل كان السجود لله من أجل خلق هذا الموجود العجيب. أو كان سجود الملائكة لآدم سجود «خضوع» لا عبادة.

جاء في عيون الأخبار عن الإمام عليّ بن موسى الرّضا(ع) حديث طويل وفيه: «إنّ الله تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه وأمر الملائكة بالسجود له تعظيماً لنا وإكراماً وكان سجودهم لله تعالى عبودية، ولآدم إكراماً وطاعة لكوننا في صلبه».

بعد هذا المشهد ومشهد اختبار الملائكة، اُمر آدم وزوجه أن يسكنا الجنة، كما جاء في قوله تعالى: (وَقُلْنَا يَا ءَادَمُ آسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُك الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ)[1] .

 يستفاد من آيات القرآن أنّ آدم خُلق للعيش على هذه الأرض، لكن الله شاء أن يسكنه قبل ذلك الجنة، وهي روضة خضراء موفورة النعمة في هذا العالم.

لعل مرحلة مكوث آدم في الجنة كانت مرحلة تحضيرية لعدم ممارسة آدم للحياة على الأرض وصعوبة تحمل المشاكل الدنيوية بدون مقدمة، ومن أجل تأهيل آدم لتحمل مسؤوليات المستقبل، ولتفهيمه أهمية حمل هذه المسؤوليات والتكاليف الإلهيّة في تحقيق سعادته، ولإعطائه صورة عن الشقاء الذي يستتبع اهمال هذه التكاليف، ولتنبيهه بالمحظورات التي سيواجهها على ظهر الأرض.

ينبغي أن ينضج آدم(ع) في هذا الجو إلى حد معين، وأن يعرف أصدقاءه وأعداءه، ويتعلم كيف يعيش على ظهر الأرض، نعم، كانت هذه مجموعة من التعاليم الضرورية التي تؤهله للحياة على ظهر الأرض.

وهنا رأى «آدم» نفسه أمام أمر إلهي يقضي بعدم الاقتراب من الشجرة، لكن الشيطان أبى إلّا أن ينفذ بقسمه في إغواء آدم وذريته. تقول الآية بعد ذلك: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ).

نعم. اُخرجا من الجنة حيث الراحة والهدوء وعدم الألم والتعب والعناء، على أثر وسوسة الشيطان.

وصدر لهما الأمر الإلهي بالهبوط: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوُّ وَلَكُمْ فِى الاْرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ).

وهنا، فهم آدم أنّه ظلم نفسه، وأخرج من الجوّ الهادي الملي بنعم الجنة بسبب استسلامه لوسوسة الشيطان، وهبط في جوّ مفعم بالتعب والمشقة والعناء، مع أنّ آدم كان نبياً ومعصوماً، فإنّ الله يؤاخذ الأنبياء بترك الأولى ـ كما سنرى ـ كما يؤاخذ باقي الأفراد على ذنوبهم، وهو عقاب شديد تلقاه آدم جرّاء عصيانه.

 

بحوث

1ـ ما هي جنة آدم؟ يبدو أنّ الجنة التي مكث فيها آدم قبل هبوطه إلى الأرض، لم تكن الجنة التي وعد بها المتقون، بل كانت من جنان الدنيا، وصقعاً منعّماً خلّاباً من أصقاع الأرض. ودليلنا على ذلك:

أوّلاً: الجنة الموعودة في القيامة نعمة خالدة، والقرآن ذكر مراراً خلودها، فلا يمكن إذن الخروج منها.

ثانياً: إبليس الملعون ليس له طريق للجنة، وليس لوسوسته مكان هناك.

ثالثاً: وردت عن أهل البيت: روايات تصرح بذلك.

في الكافي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(ع) أنّه سئل عن جنة آدم، فقال: «جنة من جنات الدنيا، يطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبدآ».

من هذا يتضح أنّ هبوط آدم ونزوله إلى الأرض لم يكن مكانياً بل مقامياً، أي أنّه هبط من مكانته السامية ومن تلك الجنة المزدانة.

2ـ المقصود من الشيطان في القرآن: كلمة الشيطان من مادة «شطن» و«الشاطن» هو الخبيث والوضيع، والشيطان تطلق على الموجود المتمرد العاصي، إنساناً كان أو غير إنسان، وتعني أيضاً الروح الشريرة البعيدة عن الحق. وبين كل هذه المعاني قدر مشترك.

والشيطان اسم جنس عام، وإبليس اسم علم خاص، وبعبارة اُخرى، الشيطان كل موجود مؤذٍ مغوٍ طاغ متمرد، إنساناً كان أم غير إنسان ، وإبليس اسم الشيطان الذي أغوى آدم ويتربّص هو وجنده الدوائر بأبناء آدم دوماً.

من مواضع استعمال هذه الكلمة في القرآن يفهم أنّ كلمة الشيطان تطلق على الموجود المؤذي المضر المنحرف الذي يسعى إلى بثّ الفرقة والفساد والاختلاف، مثل قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ)[2] .

والاستعمال القرآني لكلمة شيطان يشمل حتى أفراد البشر المفسدين المعادين للدعوة الإلهيّة، كقوله تعالى: (وَكَذلِك جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الاْنسِ وَالْجِنِّ)[3] .

كلمة الشيطان اُطلقت على إبليس أيضاً بسبب فساده وانحرافه.

3ـ لماذا خُلق الشيطان؟ يثار أحياناً سؤال عن سبب خلق هذا الموجود المضل المغوي، وفي الجواب نقول:

أوّلاً: لم يخلق الله الشيطان، شيطاناً، والدليل على ذلك وجوده بين ملائكة الله وعلى الفطرة الطاهرة، لكنه بعد تحرره أساء التصرف، وعزم على الطغيان والتمرد، إنّه إذن خلق طاهراً، وسلك طريق الانحراف مختاراً.

ثانياً: وجود الشيطان لا يسبب ضرراً للأفراد المؤمنين، ولطلاب طريق الحق، في منظار نظام الخليقة، بل إنّه وسيلة لتقدمهم وتكاملهم، إذ إنّ التطور والتقدم يتم من خلال صراع الأضداد.

 

عودة آدم(ع) إلى الله

بعد حادثة وسوسة إبليس، وصدور الأمر الإلهي لآدم بالخروج من الجنة، فهم آدم أنّه ظلم نفسه، وهنا أخذ آدم يفكر في تلافي خطئه، فاتجه بكل وجوده إلى بارئه وهو نادم أشد الندم، وأدركته رحمة الله في هذه اللحظات كما تقول الآية: (فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

«التوبة» في اللغة بمعنى «العودة» وهي في التعبير القرآني، بمعنى العودة عن الذنب، إن نُسبت إلى المذنب، وإن نسبت كلمة التوبة إلى الله فتعني عودته سبحانه إلى الرحمة التي كانت مسلوبة عن العبد المذنب. ولذلك فهو تعالى «توّاب» في التعبير القرآني.

على أي حال، لقد حدث ما لا ينبغي أن يحدث ـ أو ما ينبغي أن يحدث ـ وقُبلت توبة آدم. لكن الأثر الوضعي للهبوط في الأرض لم يتغير، كما يذكر القرآن: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِّنِّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَاي فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِـَايَاتِنَا أُولَـئِك أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

الكلمات التي تلقاها آدم: تعددت الآراء في تفسير «الكلمات» التي تلقاها آدم(ع) من ربّه. المعروف أنّها الكلمات المذكورة في الآية (23) من سورة الأعراف: (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّم تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

وقال آخرون أنّ المقصود من الكلمات هذا الدعاء:

«اللّهمّ لا إلـه إلّا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي، فاغفر لي إنّك خير الغافرين».

«اللّهمّ لا إلـه إلّا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي، فارحمني إنّك خير الراحمين».

«اللّهمّ لا إلـه إلّا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي، فَتُب عليّ إنّك أنت التّوّاب الرّحيم».

وفي روايات وردت عن طرق أهل البيت: أنّ المقصود من «الكلمات» أسماء أفضل مخلوقات الله وهم: محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ـ عليهم أفضل الصلاة والسّلام ـ وآدم توسّل بهذه الكلمات ليطلب العفو من ربّ العالمين فعفا عنه.

هذه التفاسير الثلاثة لا تتعارض مع بعضها.

 

[1] . «الرغد»: على وزن الصمد يعني الكثير والواسع والهنيء؛ وعبارة «حيث شئتما» تعني: من أي مكان شئتمافي الجنة، أو من أي نوع شئتم من فاكهة الجنة.

[2] . سورة المائدة /91.

[3] . سورة الأنعام /112.

captcha