نمطية استشهاد الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) وفقاً لرؤية سماحته(دام ظله)

نمطية استشهاد الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) وفقاً لرؤية سماحته(دام ظله)


لقد ذهب رمز العدالة من بين الناس؛ لقد ترك ذلك الزعيم الحنون والمشفق مكانه للآخرين؛ لقد ذهب من کان خازناً للعلوم الإلهية ومن کانت تتناثر الحكم والعلوم من فمه في خطبه؛ لقد ترك الناس وحكام بني أمية الجبابرة الذين تربعوا على موقعه وهم لا يعترفون بأى قيمة إنسانية ولا يتحركون إلا وفق الأهواء الشيطانية والغرائز الحيوانية.‌

يجب الإذعان بأنّ الإمام علي(عليه السلام) قام بتشکيل حکم إسلامي يقيم فيه حدود الله بعد صبر مرير وصمت حكيم استمر 25 عاماً حفاظاً على براعم الإسلام الفتيّة وإزالة العقبات التي تمنع من انتشاره. وبالفعل قام الإمام بإقامة الحدود الإلهية ومحاربة الانحرافات والعناية بالفقراء والمحتاجين وإعادة حقوق المظلومين والتقسيم العادل لبيت المال. لکن لم يطق شبه المسلمين هذا الحدّ من العدل فاغتالوه شهيداً[1].

إنّ هذا المقطع من حديث سماحة آية الله العظمى الشيخ ناصر مکارم الشيرازي عن دور تحقيق العدل وإحقاق الحق في الحكم العلوي يكفي بأن يتّخذ في ذكرى استشهاد مولى المتقين وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب من هذا الإمام الهمام نموذجاً للاقتداء والتأسي وخاصة من تلك التعاليم والوصايا الفريدة التي أصدرها وهو يصارع الموت وفي اللحظات الأخيرة من عمره الشريف قبيل استشهاده. کما علينا الاغتراف من معين آراء ورؤى سماحة المرجع ومفسر القرآن الکبير ومفسر وشارح نهج البلاغة آية الله العظمى الشيخ مکارم الشيرازي أن نتخذ هذين المفهومين (تحقيق العدل وإحقاق الحق) كمعلمين لنشر السيرة العلوية في حكم المجتمع الإسلامي يهتم بهما الجميع وتکونا في صلب اهتماماتهم.

ومن هذا المنطلق، نستعرض في هذا المقال أهم السمات والرسائل المقتبسة من وصايا وسلوك أمير المؤمنين للقارئ الكريم وفقاً لتصورات وآراء سماحة آية الله العظمى الشيخ ناصر مکارم الشيرازي وتحت العناوين التالية:

 

نطاق مفهوم الشهادة عند الإمام علي(عليه السلام)

إنّ نطاق مفهوم الشهادة حسب ما ينظر إليها الإمام علي(عليه السلام) يتّسم بموقع خاص وشمولي عام وموسع. ويقول سماحة آية الله العظمى الشيخ ناصر مکارم الشيرازي في معرض بيانه لهذا المفهوم وموقعه في فکر الإمام: إن الإمام يكتب في ختام کتابه لمالك الأشتر «وأنا أسأل الله بسعة رحمته وبعظيم قدرته أن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة»[2]. وهناك العديد من الآيات والروايات في هذا المجال تبيّن موقع الشهداء الرفيع في الدين الإسلامي الحنيف والذي توسّع هو من دون غيره في معنى الشهادة. والسمة المميّزة للشهادة والمعني الخاص هو القتل في سبيل الله في أرض المعركة[3] ولها أحکام خاصة لم تشمل من قُتل خارج أرض المعركة وإن اعتبر شهيداً.

وللشهادة معان أخرى توسع من مفهومها لتشمل کل من قتل في طريقه لأداء واجب إلهي؛ فقد جاء في الروايات بأن «من قتل دون ماله فهو شهيد»[4] و«من مات منکم على فراشه وهو على معرفة حق من ربه وحق رسوله وأهل بيته مات شهيداً»[5] وكذلك في رواية «من مات على حب آل محمد صل الله عليه وآله مات شهيداً»[6] وکل هذا يعني بأنّ الشهيد من هذا النوع قد مات في سبيل أداء الواجب وهو الحب الممزوج بالعمل. إذن فللشهادة مفهوم وسيع يجمع بين معان شتّى.

وطبقاً لهذا المعنى، يقول الإمام أمير المؤمنين أنّ من استشهد في سبيل الله مضرّجاً بدمه ليس بأرفع ممن قدر على الذنب فاستعصم لأجل الله؛ إذن فمن الممکن أن يحصل الإنسان على ثواب الشهيد في کل يوم[7].

والدليل على أنّ لهؤلاء مقام الشهيد ومکانته واضح لأننا نطلق تسمية «الجهاد الأکبر» على جهاد النفس ومن يجاهد في معركة الجهاد الأکبر يکون کمن حضر ساحة «الجهاد الأصغر» وبل أرفع درجة منه[8].

إنّ سبيل الله وبلوغ مقام قربه ومقامات الصالحين ومقام الشهود، واضح وجليّ ولكن سلوك هذا المسار والالتزام به صعب محفوف بالمشاکل. وعلينا أن نسلّم أمرنا إلى الله لاسيما ونحن نعيش في زمن تتوفّر فيه وسائل اقتراف الذنوب وطرق الحصول عليها أصبحت سهلة متيسّرة. فعلينا أن نحافظ على أنفسنا وأسرنا في الدرجة الأولى وعلى مجتمعنا بالدرجة الثانية[9].

 

استشهاد الإمام علي(عليه السلام)، خسارة عظيمة للأمة الإسلامية

تناول سماحة آية الله العظمى الشيخ ناصر مکارم الشيرازي في مقام تفسيره للخطبة الـ 147 من کتاب نهج البلاغة انعکاسات استشهاد الإمام(عليه السلام) على الأمّة الإسلاميّة والخسائر الناجمة عن هذا الحدث الجلل قائلاً: «وقال الإمام(عليه السلام): وَدَاعِي لَكُمْ وَدَاعُ امْرِئٍ مُرْصِدٍ[10] لِلتَّلَاقِي غَداً تَرَوْنَ أَيَّامِي وَيُكْشَفُ لَكُمْ عَنْ سَرَائِرِي وَتَعْرِفُونَنِي بَعْدَ خُلُوِّ مَكَانِي وَقِيَامِ غَيْرِي مَقَامِي[11]».

أجل؛ لقد ذهب رمز العدالة من بين الناس؛ لقد ترك ذلك الزعيم الحنون والمشفق مكانه للآخرين؛ لقد ذهب من کان خازناً للعلوم الإلهيّة ومن کانت تتناثر الحكم والعلوم من فمه في خطبه؛ لقد ترك الناس وحكام بني أمية الجبابرة الذين تربعوا على موقعه وهم لا يعترفون بأيّ قيمة إنسانيّة ولا يتحركون إلا وفق الأهواء الشيطانية والغرائز الحيوانية الذين أراقوا دماء الکثير من الأبرياء.

عندئذ عرف المسلمون قيمة ما فقدوه وعمق الخسارة العظيمة التي لحقت بهم. والتعبير بكلمة «غداً» في کلام الإمام -کما هو ظاهر من العبارة- لا يُقصد منه عالم البرزخ أو القيامة (کما ذهب إليه بعض الشارحين) وإنّما هي إشارة إلى الأيام المشؤومة والمريرة والمظلمة القادمة التي ستمرّ على الأمة بعد استشهاد الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) [12].

 

إطفاء نور الحق: القاسم المشترك بين «أشقى الأوّلين» و«أشقى الآخرين»

لا مراء في أنّ إغتيال أمير المؤمنين وسيد المتقين(عليه السلام) على يد أشقى الأشقياء قد تضمّن عدّة أهداف وغايات ولکن الغاية الکبرى التي سعى وراءها أعداء القرآن وأهل البيت في هذا العمل المشؤوم تتبلور في محاولاتهم لإيقاف خطوات الإمام(عليه السلام) نحو إحقاق الحق ونفي مفعولها والسعي إلى إطفاء أنوار الله المضيئة المتجليّة في سيرته العلوية المباركة. ويقول سماحة آية الله العظمى الشيخ ناصر مکارم الشيرازي عند تأمله في أسباب قيام أعداء أهل البيت في إغتيال الإمام(عليه السلام): «لقد أورد جمع من کبار الشيعة وأهل السنة ومنهم الثعلبي والواحدي وابن مردويه والخطيب البغدادي والطبري والموصلي وأحمد بن حنبل وغيرهم بإسناد عن عمار بن ياسر وجابر بن سمرة وعثمان بن صهيب نقلوه عن النبي صلى الله عليه وآله أنّه قال: يا علي! أشقى[13[ الأوّلين عاقر الناقة أشقى الآخرين قاتلك. وفي رواية يخضب هذه من هذا[14].

وفي الحقيقة هناك وجه شبه يجمع بين «قدار بن سالف» عاقر ناقة صالح وبين قاتل أمير المؤمنين وهو عبدالرحمن بن ملجم المرادي. فالإثنان لم تکن لديهم أيّ عداوة شخصية مع الطرف الآخر وإنما کانا يسعيان نحو إطفاء نور الحق والقضاء على المعاجز والآيات الربانيّة. وکما أنّ العذاب الإلهيّ عمّ قوم صالح الطغاة المتغطرسين بعد عقر ناقة صالح، اکتسح العذاب الأليم المتمثل بالحکم الأموي الظالم والجبار الأمّة الإسلامية بُعيد استشهاد أمير المؤمنين(عليه السلام) مظلوماً[15].

 

تأمل تفسيري في نداء «فزت وربّ الکعبة»

لا شكّ في أنّ نداء «فزت وربّ الکعبة» الذي أطلقه الإمام على(عليه السلام) بعد أن ضربه ابن ملجم، يعدّ الأهم والأبلغ في الرسائل التي وجهها الإمام(عليه السلام) إبّان استشهاده. ويقول المرجع ومفسر القرآن الکريم في تبيينه لهذا المقطع المهمّ من نداء الإمام(عليه السلام) بأنّ مفردة «الفوز» عادة ما تردف في القرآن الکريم بوصف «العظيم» واحياناً بأحد لفظى «المبين» و«الکبير». والفوز کما ذکر الراغب في مفرداته يعني الظّفر بالخير مع حصول السّلامة؛ وهذا مرهون بالنجاة في الآخرة وإن تلازم مع فقد مواهب الدنيا الماديّة.

ووفقاً لأشهر الروايات فإنّ أمير المؤمنين نادى «فزت وربّ الکعبة» عندما فُلقت هامته المباركة بضربة سيف عبدالرحمن بن ملجم وهو في محراب العبادة وكأنمّا أراد بهذا النداء أن يقول وقعت على الفوز والسعادة بدمي هذا. أجل؛ يبلغ الابتلاء والامتحان الإلهي أحياناً حداً من الصعوبة والمشقّة بحيث يقتلع الإيمان الواهن من جذوره ويقلّب القلوب ولا يصمد أمام هذا الامتحان إلا الراسخون في الإيمان والذين أنزل الله السکينة على قلوبهم. إنّ هؤلاء هم الفائزون في القيامة[16] وهذا هو الفوز العظيم حقّاً[17] فهو مکافأة عن صبرهم في الدنيا.

 

اتصال روح الإمام علي(عليه السلام) بالعالم العلوي

إنّ إحدى أهم الرسائل التي يجب البحث عنها في نداء «فزت وربّ الکعبة» حسبما يصرّح بذلك سماحة آية الله العظمى الشيخ ناصر مکارم الشيرازي، هي تلك التي تعبّر عن اتّصال أمير المؤمنين(عليه السلام) بملائكة الله وذاته الأقدس. ويقول سماحته في هذا المجال: إن عبارة «مرصد للتلاقي»[18]، إن عبّرت عن لقاء ملك الموت أو عبرت عن لقاء الله، فهي توضّح بأن روح الإمام علي(عليه السلام) المقدّسة لم تکن متّصلة بهذا العالم المادي الزائل وإنما کانت تسمو نحو العالم العلوي، وملائكة الله والذات الربوبية المقدّسة وجاءت ضربة ابن ملجم وكأنمّا تمّهد إلى هذا الفوز العظيم ولقاء ربّ الکعبة وکان نداء «فزت وربّ الکعبة» تأکيداً على هذه الرغبة في الالتحاق بالرفيق الأعلى وإن کانت روح الإمام ووفقاً لحکمة الله قد حُجبت عن هذا اللقاء بحبسها في الجسد[19]. الإمام(عليه السلام) عاش بجوار الناس وعايشهم ولکن عندما تحطّمت قيود القفس الدنيوي بهذه الضربة، حلّق الإمام بجناحيه نحو لقاء ربه[20].

کما علينا ألا ننسى تلك الکلمات والوصايا التي وجّهها الإمام علي(عليه السلام) في لحظات حياته الأخيرة قبل استشهاده فهي تعدّ من أهمّ التعاليم التي کان الإمام يصرّ على ذکرها لمن حضر وفاته. ويشير سماحة آية الله العظمى إلى أهمّ سمات هذه الوصايا المبدئيّة والمهمّة في کلام أمير المؤمنين؛ تحت العناوين الرئيسة التاليّة:

 

العفو والكفّ عن الانتقام والثأر؛ السمة الرئيسة في السيرة العلويّة

لقد بينت سيرة الإمام علي(عليه السلام) في حياته وفترة حکمه بأن تجنّب الانتقام والثأر والاتّجاه نحو العفو والتسامح قد شکّل أبرز وأهمّ ملامح سياسة الإمام(عليه السلام) في مواجهته مع أحداث المجتمع الإسلاميّ المختلفة. إنّ هذا التوجه الفريد من نوعه تبلور جليّاً في سيرة الإمام(عليه السلام) في التعامل مع ألدّ أعدائه وأشقاهم. ويوضح سماحة آية الله العظمى الشيخ ناصر مکارم الشيرازي هذه النقطة قائلاً: إنّ الإمام(عليه السلام) يدعو في کلامه الحکيم إلى العزوف عن الانتقام واختيار الصبر والعفو ويقول: «مَتَي أَشْفِي غَيْظِي إِذَا غَضِبْتُ أَحِينَ أَعْجِزُ عَنِ الِانْتِقَامِ فَيُقَالُ لِي لَوْ صَبَرْتَ أَمْ حِينَ أَقْدِرُ عَلَيْهِ فَيُقَالُ لِي لَوْ عَفَوْتَ»[21].

ويضيف سماحة المرجع شارحاً هذه الحکمة من أمير المؤمنين بقوله: في الحقيقة إنّ الإنسان الغاضب يواجه خيارين أمام ما يعانيه من ظلم وجور؛ فإمّا أن يختار الانتقام ولکنّه يعجز عنه فيبادر به نحو الظالم ربّما بتوجيه کلمات نابية أو التهديد والتوعّد أو حتى الاشتباك المباشر فحين يرى عجزه ينسحب ويتقهقر. ويقول له الناس حينها إذا أردت الانتقام فعليك بتعزيز قدراتك للتمکّن من ذلك فلا تذهب إلى ساحة الانتقام وأنت ضعيف فتذهب کرامتك وتسوء سمعتك. إذن ففي هذه الحالة يدعوه الناس الى الصبر والتريث؛ وإمّا أن يتمکن من الانتقام لضعف الخصم وعجزه وحينها وعند عزمه على عقوبة العدو يدعوه الناس إلى الکفّ عن الانتقام واختيار العفو لأن العفو زكاه القوة[ 22]. وفي کلتا الحالتين لا يصحّ الانتقام ولا يتقبله العقل. والإمام بهذا التعبير اللطيف والحکمة المشرقة أنّما يدعو الناس إلى اجتناب الانتقام، فالانتقام يشعل فتيل الحروب الدامية والواسعة النطاق. وأما ما أوصى به الإمام(عليه السلام) أبناءه عن قاتله عبدالرحمن ابن ملجم المرادي فقد فاق کل التصوّرات والمروءات. الإمام علي(عليه السلام) يوصي الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) بتوفير الماء والغذاء والراحة للأسير المحتجز لديهم بقوله: فأطعمه يا بني مما تأكله، واسقه مما تشرب، ولا تقيد له قدماً، ولا تغل له يداً، فإن أنا متّ فاقتص منه بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة،... وإن عشت فأنا أولى بالعفو عنه[22]. إنّ هذا السلوك ليس بغريب من رجل تربّى في مدرسة أستاذه رسول الله صل الله عليه وآله والذي سطّر أروع الأمثلة عن العفو والمرحمة عند فتحه لمكة[23].

 

تحقيق العدالة حتى بمواجهة قاتله

لقد امتازت السيرة العلوية بتحقيق العدل والإنصاف وقد تجلى هذا الاتّجاه العادل في سلوك الإمام(عليه السلام) مع قاتله أشقى الأشقياء عبدالرحمن بن ملجم ويوضّح هذا المعنى سماحة آية الله العظمى الشيخ ناصر مکارم الشيرازي حين يقول: إنّ مراعاة العدالة والالتزام بها في السيرة العلويّة تتّسم بأهميّة بالغة حتى إنّنا لنقرأ في وصاياه إلى ذويه قبل استشهاده يقول: «يا بني عبدالمطلب لا ألفينکم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون: قُتل أمير المؤمنين، قُتل أمير المؤمنين. ألا لا يُقتلنّ بي إلّا قاتلي. انظروا إذا أنا متّ من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة ولا تمثّلوا به...[ 24] [25].

 

الاهتمام ببيت الله؛ في لحظة الاستشهاد

يرى سماحة آية الله العظمى الشيخ ناصر مکارم الشيرازي أنّ الکعبة المشرفة کانت في صلب اهتمامات الإمام علي(عليه السلام) فهاهو طريح فراش الموت يوصي بها قائلاً: اللَّهَ اللَّهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ فَلَا يَخْلُو مِنْكُمْ مَا بَقِيتُمْ، فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا...[ 26] [27].

 

الحفاظ على السنّة؛ وصية الإمام علي(عليه السلام) في فراش الشهادة

 إن من أبرز وأهمّ معالم المؤمن الحقيقيّة في وصية الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) وبحسب رأي سماحة آية الله العظمى الشيخ ناصر مکارم الشيرازي، المحافظة على سنّة الرسول صلى الله عليه وآله والعمل بما جاء في القرآن الکريم. ويقول سماحته بأنّ الحفاظ على سنة الرسول صلى الله عليه وآله ليست بلعق اللسان وإنّما تتجلى في السلوك العملي. وللأسف الشديد فإنّنا نرى جماعة اکتفت باسم الإسلام وضيّعت سنّة النبي الأکرم صلوات الله عليه وعلى آله. کما أنّ هناك فريق آخر تلاعب بالسنة الشريفة بشتى الآراء والتبريرات والتفسيرات الشاذّة وما يطلقون عليه القراءات الجديدة وحملوا سنّة النبي ما لم تحتمل وبدلوا سنة النبي برغباتهم الشخصية وميولهم النفسيّة مما جعل الإمام علي(عليه السلام) يوصي في مضجع موته[ 28]. قائلاّ: الله الله في القرآن !.. فلا يسبقنّكم إلى العلم به غيركم»[29]. إن هذه الوصية تكشف عن هواجس الإمام(عليه السلام) قبل موته حيث يحذّر من العمل بالقرآن من قبل الآخرين ونسيانه من قبل المسلمين. إن هواجس الإمام ومخاوفه لا تنتهي عند هذا الحدّ فهو يخاف من خيانة القريب وصدق البعيد ووحدة العالم واختلاف المسلمين وإنّنا نخشى قرب حلول اليوم الذي يتحقق فيه هذا الکلام؛ يوم «لا يبقى من الإسلام إلّا اسمه ولا يبقى من القرآن إلا رسمه»[30].

 

رأفة الإمام علي(عليه السلام) بقاتله

إنّ الرأفة والرحمة تعدّ من جملة السمات المتأصّلة والمتلازمة في التعاليم الشيعيّة الخالصة ومعارفها. مبدء سام نشاهده في کيفية تعامل أمير المؤمنين مع قاتله. ويوضح سماحة آية الله العظمى الشيخ ناصر مکارم الشيرازي عند شرحه لهذه السمّة الرئيسة في السيرة العلويّة بأنّ تعامل الإمام علي(عليه السلام) مع قاتله عبدالرحمن بن ملجم المرادي کان يتمتّع بقدر کبير من الرحمة والسماحة، فلقد لزم(عليه السلام) سلوکاً دينيّاً عظيماً مع عدوّه بدء منذ لحظة تنفيذ الاغتيال واعتقال القاتل الدنئ وحتى لحظة مفارقته للحياة وفي وصاياه لأبناءه. فکان للعدو اللدود نصيب من رأفة هذا الإمام العظيم فيوصي الإمام أبناءه إلى حقن دماء المسلمين ويقول بأنّ قاتله هو عبدالرحمن بن ملجم ليوضع بذلك حاجزاً أمام الذرائع التي قد يتشبّث بها البعض بقصد إراقة دماء الأبرياء من المسلمين بحجّة قتل الإمام ولتصفية[31] حساباتهم السياسية تحت شعار الثأر لخليفة المسلمين. ويوصي الإمام ابنه الحسن بقوله: «...فأطعمه يا بني مما تأكله، واسقه مما تشرب، ولا تقيّد له قدماً، ولا تغلّ له يداً، فإن أنا متّ فاقتصّ منه بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة،... وإن عشت فأنا أولى بالعفو عنه ولا تمثّل به».

إنّها -والکلام لسماحة المرجع - وصايا الإمام في حقّ قاتله في لحظات حياته الأخيرة، فکيف يمکن وصف الإسلام بالعنف وخليفة رسوله هذا يمتلك هذا الجانب العظيم من الرحمة والعفو؟![32].

 

التعذيب ممنوع

لقد منع الإسلام التعذيب منعاً باتاً وبأيّ شكل وتحت أيّ ذريعة. إنّ هذا الحکم الإسلامي يمتاز بجانب کبير من الأهميّة حيث منع الإمام تعذيب قاتله ابن ملجم المرادي وهو أشقى الآخرين وأشقى من شمر ويزيد ويوصي أبناءه عند قرارهم بالقصاص ألّا يضربوه إلّا ضربة واحدة[33]. وأما اليوم فالتعذيب أضحى سمة الحکومات القمعيّة التي تدعي الالتزام بحقوق الإنسان حيث ملأت شعاراتهم الزائفة آذان العباد وأرکان البلاد[34].

 

السيرة العلويّة في نشر التسامح والمداراة؛ حتى مع السجين المجرم

إنّنا نعيش عصراً تتعالى فيه أصوات الأبواق المزيّفة التي تدّعي حماية حقوق الإنسان کذباً من قبل السلطات الاستكبارية. بإزاء ذلك تقدّم مدرسة أهل البيت وسيرة الأئمّة أفضل النماذج في الالتزام بحقوق الإنسان وبجميع جوانبه والمداراة مع السجناء. وأکّد سماحة آية الله العظمى الشيخ ناصر مکارم الشيرازي ضمن تناوله جانباً من السيرة العلويّة ودعوة الإمام علي(عليه السلام) أبناءه للمداراة مع قاتله أشقى الآخرين، حيث أکّد قائلاً: إنّ المبادئ الإنسانيّة تدعو إلى الالتزام بالموازين الإنسانية عند التعامل مع السجناء مهما کانوا مذنبين. وإن کان عالمنا المعاصر يعتبر نفسه المؤسّس لقضيّة الدفاع عن حقوق السجناء، لکنّ تاريخ الإسلام المجيد سجّل لنا نماذج رائعة من سلوك النبي صلى الله عليه وآله في هذا المجال، والوصايا التي أصدرها لمراعاة حال الأسرى والسجناء في بدايات حکمه الفتيّ. کما حذى الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه حذو النبي في هذا الخلق السامي حيث أوصى بمداراة المجرم عبدالرحمن بن ملجم والتعامل معه على نحو حسن إبّان فترة أسره حتّى أنّه أمر بإطعامه من اللبن الذي کان يأتيه[35]، فکان الإمام يدخل في غيبوبة إثر غيبوبة لشدّة الضربة التي فلقت هامته الشريفة ونفوذ السمّ. فأفاق الإمام(عليه السلام) من إحدى غيبوباته وأتاه الإمام الحسن(عليه السلام) بكأس من اللبن فشرب(عليه السلام) نزراً يسيراً منه ثم توجّه نحو الحسن وأمره بإطعام سجينه ابن ملجم مما بقي من اللبن.[36][37] وکما أسلفنا سابقاً فإنّه أوصي بالقصاص ضربة بضربة لأنه لم يوجه للإمام إلا ضربة واحدة[38].

 

استشهاد الامام علي(عليه السلام)؛ محوريّة المعاد في المدرسة العلويّة

إنّ استشهاد الإمام علي(عليه السلام) وما أطلقه من نداء «فزت وربّ الکعبة» يشکّل وحسب رؤية سماحة آية الله مکارم الشيرازي، المعيار الأهمّ في محوريّة المعاد المترسّخة في شخصيّة الإمام علي(عليه السلام) حيث يوضّح سماحته بأنّ هناك رؤية لا ترى في الموت إلا الهلاك والفناء المطلق وتهرب منه بکل ما أوتيت من قوّة لأنّ الموت بحسب رأيها يفني کل شيء معه؛ بينما توجد نظرة أخرى تؤمن بأنّ الموت ميلاد جديد ونقلة نحو عالم مضيء کبير وشاسع وانطلاقة نحو السموات العلى. ومن الطبيعي أن لا يستقبل الموالون لهذه المدرسة الفکرية الموت والشهادة في سبيل غاياتهم وحسب؛ بل إنّهم ليستقبلونه برحابة صدر مستأنسين ومستلهمين ذلك من مدرسة الإمام أمير المؤمنين وهو القائل: «والله فإنّ ابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل إلى محالب أمّه». ومن هنا فإن الإمام وبعد ما ضربه الشقي عبد الرحمن بن ملجم هتف بذلك النداء الأبدي؛ «فزت ورب الکعبة» وکأنّما يريد بذلك التعبير عن فوزه وفلاحه.

 

الصلاة؛ عمود الدين

تمثّل الصلاة في منظومة سماحة آية الله العظمى الشيخ ناصر مکارم الشيرازي الفکرية إحياء لروح الإخلاص في البشر وذلك لأنّها مجموعة من النوايا الصالحة الخالصة والکلام البليغ المنزّه والأعمال المخلصة وبتکرار إقامتها في المواقيت المحدّدة، تزرع بذور صالح الأعمال والخيرات في نفس الإنسان وتعزز عنده من روح الإخلاص والتفاني.

ويقول سماحته في هذا الشأن: إنّ الإمام يوصي وهو طريح الفراش مفلوق الهامة إثر ضربة الشقيّ ابن ملجم قائلاً: «الله الله في الصلاة فإنّها عمود دينکم»[39]. ونعرف جيداً ما للعمود من أثر في قيام الخيمة فلو سقط العمود انکبّت الخيمة مهما كانت حبالها صلبة محكمة وهوت مهما توطّدت أوتادها. فلو انقطع اتصال العباد بخالقهم بانفصام عروة الصلاة، فقدت سائر الأعمال أثرها وانتفى مفعولها لدى البشر[40].

ومن هذا المنطلق الإيمانيّ العظيم ووفقاً للروايات والأخبار المتواترة لم يترك الإمام(عليه السلام) العبادة إلى حين وفاته وقد أصيب بتلك الضربة المشؤومة وهو قائم يصلي في المحراب ولم ينحصر هذا التوجه الإيمانيّ بالصلاة بالامام علي(عليه السلام) وإنّما کان ديدن سائر أئمة أهل البيت عليهم التحية والسلام[41][42].

 

مسك الختام؛ نداء الإمام علي(عليه السلام) الأخير لشيعته

في معرض تفسير سماحة آية الله العظمى الشيخ ناصر مکارم الشيرازي لمقطع منير من کلام الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: إنّ الإمام(عليه السلام) وفي القسم الثاني من الخطبة 149 وفي عبارات في غاية الإيجاز والبلاغة قد أوجز حياته لأصحابه قائلاً: «أنا بالأمس صاحبکم واليوم عبرة لكم وغداً مفارقکم»[43] ؛ وکأنّه يقول أنا الفاتح لخيبر والأحزاب وبدر، القوي القادر، کنت جنبكم وبعد يوم وبهامة مفلوقة من جور ابن ملجم وقعت في مضجع الشهادة. إنّ هذه الهامة المنفلقة تعطيكم درساً بعدم وفاء الدنيا لأحد وغداً عندما رأيتم مکاني فارغاً ستعلمون قيمة الدنيا؛ وبهذه البساطة الفائقة يستغني هذا الرجل الشجاع والبطل عن الدنيا ويسلّم نفسه لقضاء الله وقدره[44].

إعداد ودراسة شعبة الأخبار في المكتب الإعلامي التابع لسماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله)

الهوامش:

 [1] بطل التوحيد، شرح وتفسير الآيات المتعلقة بإبراهيم(عليه السلام)، ص195.
[2] نهج البلاغة، نامه 53.
[3] مشكاة الهداية ؛ ص82.
[4] وسائل الشيعة، ج 11، ص 35.
[5] وسائل الشيعة، ج 11، ص 40.
[6] بحار الأنوار، ج 23، ص 233.
[7] مشكاة الهداية، ص: 83.
[8] مشكاة الهداية ؛ ص84.
[9] مشكاة الهداية، ص: 85.
[10] المرصد من مادة الارصاد.
[11] نهج البلاغة؛ خطبۀ 147.
[12] نفحات الولاية؛ ج‏5 ؛ ص717.
[13] التفسير الأمثل ؛ ج‏27 ؛ ص61.
[14] " تفسير نور الثقلين، ج 5 ص 587.
[15] التفسير الأمثل، ج‏27، ص: 62.
[16] التفسير الأمثل، ج‏22، ص: 33.
[17] التفسير الأمثل، ج‏22، ص: 34.
[18] وداعي لكم وداع امرى‏ء مرصد للتّلاقي! غدا ترون أيّامي....(نهج البلاغة؛ الخطبة 147).
[19] نفحاة الولاية؛ ج‏5 ؛ ص717.
[20] نفحات الولاية، ج‏5، ص: 718.
[21] نهج البلاغة، الحكمة 191.
[22] نفحاة الولاية؛ ج‏13 ؛ ص513.
[23] نفحات الولاية، ج‏13، ص: 514.
[24] نهج البلاغة الرسالة 47.
[25] التفسير الأمثل، ج‏12، ص: 109.
[26] نهج‏البلاغة، الرسالة 47.
[27] قصة الأصحاب، البحوث التفسيرية لسماحته؛ ص118.
[28] نفحات الولاية، ج‏9، ص: 278.
[29] الرسال 47.
[30] نفحات الولاية، ج‏9، ص: 279.
[31] خير العباد؛ ص35.
[32] خير العباد، ص: 36.
[33] نهج‏البلاغة، الكلمات القصار، 47.
[34] الأقسام القرآنية ؛ ص208.
[35] التفسير الأمثل، ج‏10، ص: 13.
[36] البحار، ج 42، ص 289.
[37] نفحات القرآن، ج‏10، ص: 211.
[38] التفسير الأمثل، ج‏10، ص: 14.
[39] نهج البلاغة الرسائل( الوصية) 47.
[40] التفسير الأمثل، ج‏16، ص: 292.
[41] التفسير الأمثل، ج 11، ص 143.
[42] الأخلاق الإسلامية في نهج البلاغة (خطبة المتقين) ؛ ج‏1 ؛ ص254.
[43] نهج البلاغة، الخطبة 149.
[45] نفحات الولاية، ج‏9، ص: 274.

 

captcha