إنّ الإنسانية لتهرول في نفق مظلم ليست له نهاية سوى الاضطراب المطلق

إنّ الإنسانية لتهرول في نفق مظلم ليست له نهاية سوى الاضطراب المطلق


يمتاز عصرنا بوفرة كل شيء سوى الطمأنينة، ولا نرانا مخطئين لو أسمينا هذا العصر بعصر القلق والاضطراب، ورغم كل الجهود التي تبذل من أجل بلوغ هذه الضالة النفيسة، إلّا أنّ المسافة بيننا وبين هذه الضالة آخذة بالاتساع يوماً بعد آخر!‌

جميع الناس ينشدون السعادة ويبذلون جهودهم من أجل تحقيقها، إلّا أنّ أغلب الأفراد عادة ما يلتبس عليهم الأمر في تفسير هذه المفردة، فلا يستطيعون أن يحددوا بالضبط ما هي هذه السعادة التي يلهث لتحقيقها الجميع؟

بالمناسبة كيف يبحث الجميع عن واقع مبهم وغامض يعجزون عن تفسيره؟ الحق أنّ هذه الكلمة لا تنطوي على معنى واحد لدى الجميع، ولعل معانيها تتعدد وتختلف بتعدد الأفراد واختلافهم، فكل يفسّرها كيفما يشاء، إلّا أنّه ورغم كل هذه الاختلافات في التفسير هناك عامل مشترك قد يتفق عليه الجميع وهو أن السعادة هي الشيء الذي إذا بلغه الإنسان شعر بالطمأنينة والسكينة على مستوى الروح والبدن والضمير، وعليه فلا نرانا نخطيء إذا فسّرنا هذه المفردة بالطمأنينة التي تمثل آثارها العامة وأبعادها المختلفة.

إلّا أنّ هذا التفسير يجرنا إلى حقيقة مريرة، لا نملك سوى الاذعان لها رغم صعوبة قبولها وهي: إذا كانت السعادة تعني الطمأنينة، فلابدّ من الاعتراف بأنّ هذه السعادة مفقودة ولا سيما في عالمنا المعاصر، لأننا لانجد شخصآ يعيش الطمأنينة على صعيد الروح والبدن والضمير.

يمتاز عصرنا بوفرة كل شيء سوى الطمأنينة، ولا نرانا مخطئين لو أسمينا هذا العصر بعصر القلق والاضطراب، ورغم كل الجهود التي تبذل من أجل بلوغ هذه الضالة النفيسة، إلّا أنّ المسافة بيننا وبين هذه الضالة آخذة بالاتساع يوماً بعد آخر!

حيث نطالع علامات انعدام الطمأنينة في كل مكان؛ في الحانات ودور البغي ومراكز توزيع المخدرات والمستشفيات النفسية وعيادات أغلب الأطباء، حيث يبحث الكل عن هذه الضالة القيّمة، وحيث لا يتمكنون من الظفر بوجودها الواقعي فإنّهم يلوذون بوجودات زائفة ظنآ منهم أنّها هي الطمأنينة.

ويبدو أنّ هذه الطمأنينة على درجة من الأهميّة والقيمة لدى الإنسان بحيث يرى نفسه أحياناً مستعداً للتضحية بحياته من أجل تحقيقها، بل قد يقدم أحياناً على الإنتحار من أجل الظفر بها مفتشاً عنها في العدم بعد أن عجز عن الظفر بها في نور الوجود (وياله من خيال ساذج!).

أمّا «صادق هدايت» الذي كان مثالاً صارخاً لعدم الاستقرار والمتعطش للظفر بهذا الاستقرار والطمأنينة، حيث تلمس ذلك بوضوح في كتاباته وسيرة حياته، (ومن المؤسف له إنّه ورغم استعداده وطاقته الخلاقة فقد عاش اليأس المطبق في حياته ونشره بين أتباع مدرسته حتى توفي بتلك الطريقة المفجعة) فقد كتب في مقدمة كتابه المعروف (بوف كور): هناك بعض الجروح في الحياة كالديدان التي تعمل على تآكل الروح ببطء، ولا يمكن البوح لأحد بهذه الآلام... ولم يتوصل الإنسان لحد الآن إلى دواء لهذا الداء، أمّا الدواء الوحيد الذي يمكن اعتماده بهذا الشأن فهو النسيان من خلال شرب الخمر والنوم الاصطناعي بواسطة الأفيون والمخدرات، إلّا أنّ المؤسف هو التأثير المؤقت لهذه الأدوية فسرعان ما يتضاعف الألم ويشتد بدلاً من أن يسكن ويهدأ.

طبعاً هذه الآلام والجروح التي أشار لها «هداية» ليست إلّا أنواع القلق والاضطراب الذي يفرزه الواقع الحاضر وما يكمن خلف كواليس المستقبل المظلم والمجهول، ومن النماذج المتكاملة لهذا الاضطراب والرعب، هو القلق الممزوج بالأمراض النفسية، والذي رسمه في أحد فصول (بوف كور) لبطله: «... على هذا الفراش الرطب الذي تبدو منه رائحة العرق، وحين تثقل الأجفان وأهم بالتسليم للعدم وأعيش الليلة الخالدة تتجدد لدي كل ذكرياتي الضائعة وتخوفاتي المنسية، الخوف من تحول ريش الوسادة إلى أسنة خناجر!" وأزرار السترة كبيرة للغاية فتتحول إلى طاحونة ضخمة! الخشية من قطعة الخبز التي تقع على الأرض أن تتكسر كالزجاجة! القلق من أني قد أغفو وأنام فيسكب الزيت على الأرض ولعله يحرق المدينة! القلق من وقع أقدام العلب عند دكان القصاب فيكون صوتها كحافر الخيل!... الخشية أن يتحول فراشي إلى قبر فيضمني ليدفنني فيه! الخوف والرعب من ذهاب صوتي فلا ينجدني أحد مهما صرخت وارتفع صوتي»[1] .

فالكاتب وإن افترض البطل شخصاً إزدواجياً منفصم الشخصية، إلّا أنّ ما أورده ولا سيّما بالالتفات إلى الترحاب بما كتبه حتى من قبل البلدان الاوربية يمكنه أن يكشف عن القلق الذي يسيطر على أفكار أبناء عصرنا الراهن، فهذه ميزة أخرى لأوضاعهم الفكرية والنفسية.

أمّا الرئيس الأمريكي (نيكسون) فقد صرّح في أول خطاب بعد أن أدّى اليمين الدستورية بصفته الرئيس السابع والثلاثين للولايات المتحدة حيث كان المتوقع أن يتطرق للأمور الحساسة التي تهتم بها الأمّة الصناعية الثرية كأمريكا وهو يعترف بهذه الحقيقة المريرة قائلاً :

«إننا نرى من حولنا حياة فارغة ونتمنى إرضاء أنفسنا إلّا أننا لا نرضى»، طبعاً الحياة الفارغة التي أشار إليها نيكسون ليس المراد بها إلّا الحياة التي تفتقر إلى السكينة والطمأنينة، وحيث ليس فيها طمأنينة فهي خالية من كل شيء وجوفاء، وإن كانت تغص ظاهراً بكل وسائل العيش المرفهة، ولعل أفضل صورة تجسد الوضع المأساوي وحالة الاضطراب التي تسود روح البشرية في عصرنا هي تلك التي رسمها (بولانسكي) قائلاً :

إنّه من مشاهير هوليود (المدينة التي تزعم أنّها تريد إضفاء السرور على الدنيا) حيث قال بعد فراقه المؤقت من حياته السينمائية إثر الصفعة الشديدة التي تلقاها من قتل زوجته (شارون تيت) : «أرى الإنسانية تهرول في زقاق مظلم ليس له من نهاية سوى الاضطراب المطلق».

كرروا ثانية هذه العبارة «أرى الإنسانية تهرول في زقاق مظلم ليس له من نهاية سوى الاضطراب المطلق».. نعم الاضطراب المطلق! ولكن وعلى الرغم من هذا اليأس والقنوط والاستسلام للاضطراب والقلق وبالتالي الاستسلام للموت، فإنّ الظفر بهذه الضالة الكبرى أي الطمأنينة التامة ليس بالأمر الصعب، أو على الأقل إن كان صعباً فليس بمحال.

 

[1] . بوف كور، ص 140.

captcha