لماذا أفكر؟ وهل يسلب هذا التفكير طمأنينتنا؟

لماذا أفكر؟ وهل يسلب هذا التفكير طمأنينتنا؟


لست أشك أبداً بأنّي لو خيّرت قبل الولادة: هل ترغب بالذهاب إلى الدنيا لتتمتع بهذه اللذات عدّة أيّام فى خضم كل هذه المشاكل والصعاب؟ لاخترت العدم قطعاً على هذا الوجود، بل لسخرت من هذا الوجود!! ‌

 قلنا آنفا أنّ ذهن كل إنسان له حظ من التفكير حين يطأ مرحلة النضج الفكري يصبح مسرحاً للهجوم المرعب لمختلف الأسئلة والاستفسارات المتعلقة بالحياة والموت والماضي والمستقبل، لا سيّما الأسئلة ذات الصلة بأسرار الخلق والمصير وبداية ونهاية العالم، وكنت من بين الأفراد الذين شعروا بكل كيانهم ولمسوا مثل هذا الهجوم، وقد عانيت الأمرين لأتمكن من الظفر بقبس من الحقيقة.

حقّاً إنّ هذا الموضوع أمر مهم، فلو كان طرح السؤال سهلاً إلى هذه الدرجة بينما يصعب الحصول على الجواب الذي يمكنه إقناع العقل والقلب؟

لم تتراءى للذهن آلاف الأسئلة حين نهم بطرح سؤال ما، وكأنّ الأمر بمثابة الكيس السحري الذي لا ينفد مهما أخذت منه، أو كسيل بيوض أسماك البحر، حيث يتفرع مئة سؤال من سؤال واحد، لكن حين العثور على الردود فكأنّنا نريد تجاوز قمة جبل أشم حيث تطالعنا سيل المشاكل والصعاب.

أو ليست العلل الرئيسية لهذا الأمر هو أنّ أسئلتنا في الواقع فهرسة لمجهولاتنا، وعليه فهي كمجهولاتنا لا حد لها ولا حصر، وبالعكس فإنّ أجوبتنا فهرسة لمعلوماتنا وبالطبع فهي محدودة ولا شيء بالنسبة للمجهولات؟!

على كل حال فقد آن الأوان لأن نسلك مرّة أخرى ذات الطريق مع أولئك الذين سلكوا لأول مرّة ذلك الطريق الشائك والمليء بالمنعطفات والذي لامفر من اجتيازه، وممّا لا شك فيه أنّ السير على أي طريق - وعلى غرار أي طريق خطير ومخيف - يبدو أفضل وأكثر عقلانية إذا ما استعنا عليه برفيق ودليل، إننا نروم بذل الجهود والمساعي المتواصلة من أجل التوصل إلى الاجابة على هذه الأسئلة والاستفسارات والألغاز، والسير قدماً بهذا الاتّجاه على ضوء ما نملك من استعداد وقوّة.

الخطوة الأولى:

يثور في أذهاننا في الوهلة الاُولى هذا السؤال: ترى ما هي الضرورة لأن نجهد أنفسنا بالتفكير؟ لم نخلق لأنفسنا كل هذا العناء عبثاً؟

أو ليس هناك من لا يكلّف نفسه عناء التفكير بمثل هذه المسائل، فهم يردون الدنيا بكل بساطة ويودعونها دون أدنى هم (بالضبط كالشاة!)، لم يكن معلوماً لديهم من أين أتوا، وأين ذهبوا، بل لم يكن لهم من هاجس ودافع للعلم بذلك!

إنهم يقولون: ما الفائدة من العلم بالماضي والمستقبل والمبدأ والمعاد وبداية الخليقة وغايتها كي نطالب أنفسنا بالعلم بها؟ ليس هنالك من يعلم ما هي الغاية.

كل ما هنالك هو تحذير من احتمال.. ونحن لا نعير آذاناً صاغية لهذا الصوت.

ليس للدنيا من معنى لدى هؤلاء سوى التمتع باللذات العابرة التي إن لم يدركها الفرد اشتعلت نيران التعطش إليها في كل كيانه، فاذا أدرك خواءها وأحسّ بالنفور منها وقد يذهل أحياناً لكونها جوفاء لا واقعية لها.

اللذات التي تشبه إلى حد بعيد الأعمال الفنية لكبار الرسّامين التي تسحر القلوب وتشد إليها العيون من بعيد، فإن اقتربنا منها لم نجدها سوى قطعة من القماش العادي الذي لا قيمة له، وقد غطتها الألوان والأصباغ!! إلّا أنّ مثل هؤلاء الأفراد حسب تعبير الكاتب «هداية» ليسوا أكثر من أفواه متصلة بالأمعاء ومنتهية بالأجهزة التناسلية، وليس لهم أدنى امتياز على الحيوانات والحشرات التي تتلخص حياتها في المفردات المذكورة.

فهل هنالك عاقل يرضى لنفسه بأن تختصر حياته على هذه الأفعال التكرارية الرتيبة؟

لست أشك أبداً بأنّي لو خيّرت قبل الولادة: هل ترغب بالذهاب إلى الدنيا لتتمتع بهذه اللذات عدّة أيّام فى خضم كل هذه المشاكل والصعاب؟ لاخترت العدم قطعاً على هذا الوجود، بل لسخرت من هذا الوجود.

وعلى فرض قبول تلك الحياة القصيرة مع هذه المشاكل، لطالبت بالطمأنينة قبل كل شي، نعم فالطمأنينة هي تلك النقطة المبهمة التي تنتهي إليها بالتالي كافة جهودنا ومساعينا، أو على الأقل نبذلها من أجل ذلك الهدف، والحق أنّ هذه الطمأنينة وهذا الهدف الأصلي للجهود والمساعي وهذه الضالة النهائية للصغير والكبير إنّما تتعذر ولا تتسنى لأحد في ظل غياب التفكير، فالقضية وعلى العكس ممّا يتصوره البعض بأنّ عدم العلم والجهل لا يشكل أساس الطمأنينة قط، بل هو أكثر من غيره مدعاة للقلق والاضطراب والخوف والهلع، فالجهل ظلمة، وهل تختزن الظلمة سوى معاني الرهبة والخشية.

فالجهّال أشبه ما يكونون بمن تاه في صحراء واسعة وسط ظلمة الليل الدامسة، وقد غطت السماء السحب السوداء القاتمة، فكانت حوادث الدنيا الغامضة كالعواصف الموحشة والصواعق والسيول والتي تتهدّدهم وتطاردهم في تلك الصحراء المرعبة، وقد استولى القلق والاضطراب على نفوسهم وارتعشت أبدانهم لأصوات الرعد والبرق والصواعق فلم يكن لديهم من ملاذ آمن لحفظ أرواحهم، ولا طريق يلوح لهم فيسلكوه لينجوا من حيرتهم[1] .

أمّا العلم فهو نور مهما كان ضئيلاً، ومن خصائص النور الطمأنينة والهدوء والاستقرار، على العكس من الظلمة التي تتصف بالقلق والاضطراب، حقّآ إن كان للناس من خشية للظلمة فإنّما يعزى ذلك إلى ما يكتنفها من إبهام، وإن خشوا من الأموات فبسبب وضعهم المبهم، وكذلك إن خافوا المستقبل فإنّما ذلك معلول للجهل به وما يكتنفه من إبهام، ونخلص ممّا سبق إلى أن الطمأنينة لا تتأتى إلّا من خلال العلم والتوصل إلى الاجابات المناسبة بخصوص الأسئلة الواردة عن المجهولات.

وعليه فإن شاهدنا بعض الجهال ممن يعيشون حالة من عدم الاكتراث تشبه الاستقرار ولا يشعرون بأدنى هم وغم، فلا ينبغي أن ننسى أنّ هؤلاء الافراد لا يدرون حتى بجهلهم فهم يعيشون حالة من الجهل المركب، وليس استقرارهم سوى كاستقرار الشاة التي تحمل بقبضة من العلف إلى المسلخ لتنظر سائر القطيع وهي تذبح الواحدة تلو الاخرى دون أن تكثرث، فالحق هو أن هذا ليس من الاستقرار بشيء وهو أشبه ما يكون بالتخدير وفقدان الوعي، وإلّا فليس هنالك من طمأنينة وسكينة لمن أحاط خبرآ بجهله، وهو يعيش في دنيا مظلمة مليئة بالأشباح المخيفة، فهم مثقلون دائما بالقلق والاضطراب.

وعليه لا بدّ لنا من التفكير والتفكير بغية بلوغ الاطمئنان الروحي.

نعم، إذا كان من المقرر أن نتخلى عن التفكير، فما فائدة هذا الدماغ والعقل، أو ليس من الأفضل أن نطرحه عنا ونستريح من هذا الحمل الثقيل!

ولو تركت يدي وحالها دون توظيفها في حمل الأشياء، فإنّ وجودها في بدني وبهذا الثقل مجانب للعقل والمنطق.

لعلك تقول إنّما زودت بهذا العقل والتفكير لأتمتع بصورة أفضل بلذات الدنيا ومأكولاتها ومشروباتها وملبسها وبالتالي لأستمتع أكثر باللذة الجنسية.

أقول: هذا الكلام ليس بمقبول فما زود به البشر من إمكانات عقلية لتفوق بكثير هذا الهدف الصغير والوضيع، فذلك مثل أن تعطى قوة ذرية عظيمة لطفل من أجل تحريك بعض ألعابه التي يستعملها للتسلية.

إذن كيفما كان الأمر فأنا مكلّف بالتفكير في بداية الخليقة ونهايتها وفي الماضي والمستقبل والغاية من الحياة إلى جانب التفكير في الحياة والموت والمصير والعافية وفي كل شيء.

نعم، أنا مطالب قبل كل شيء بالتفكير!

 

[1] . اُقتبس هذا المثال من الآيات 16 ـ 20 من سورة البقرة.

captcha