نوعية العبادة

نوعية العبادة


لا ينبغي للإنسان أن يتحرّك في سبيل جمع المال والثروة بأي طريق كان وينفقه في أي مجال، لأنّه سيأتي اليوم الذي يطالب به بالجواب عن كلّ هذه الموارد، وسوف نسأل عن أعمالنا وما تركناه وراءنا، فهذه البيوت الخربة، وهذه الاطلال التي لا تنطق حسب الظاهر، ولكنّها تتحدّث معنا بلسان حالها‌

قال الامام الرضا(ع) :

«لَيْسَ الْعِبادَةُ كَثْرَةَ الصَّلاةِ وَ الصَّوْمِ، اِنَّمَا الْعِبادَةُ التَّفَكُّرُ فى اَمْرِ اللّه عَزَّ وَجَلَّ»[1] .

فبالرغم من أنّ الصلاة والصيام عبادة جميلة وكثيرة النفع، إلّا أنّ هذا الحديث الشريف يقرّر أنّ العبادة الحقيقيّة تنحصر بالتفكّر في أمر الله تعالى.

والمراد من كلمة «أمر» في هذه الرواية، قد يكون يراد منها الأوامر التشريعيّة أو الأوامر التكوينيّة، أو كلا الأمرين، وينبغي على المؤمن أن يتدبّر كثيراً في أسرار الأوامر التكوينيّة ومظاهر عالم الطبيعة، وكذلك يتأمّل في فلسفة العبادة والأوامر التشريعيّة.

ومن الواضح أن التفكّر في أمر الله تعالى وأسرار الخلقة هو المصداق الأعلى والأتمّ لهذه العبادة، وإلّا فالتفكّر لا يختصّ بهذه الموارد بل هو مطلوب ومحبب في جميع المجالات في واقع حياة الإنسان.

كيف نفكّر؟

ما ورد في الرواية أعلاه هو الكلام عن أصل أهميّة التفكّر، ولكن كيفيّة التفكّر أمر آخر، وهو ما ورد في الحديث الثاني من هذا الباب يقول الراوي: سألت أباعبدالله (الصادق)(ع) عمّا يروي الناس (حديث معروف عن رسول الله(ص)) أنّ تفكّر ساعة خير من قيام ليلة، قلت: كيف يتفكّر؟

قال الإمام(ع): «يَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ أَوْ بِالدّارِ فَيَقُولُ: أَيْنَ ساكِنُوك، أَيْنَ بانُوك، ما لَك لا تَتَكَلَّمينَ؟»[2] .

أجل، إنّ أحد الطرق البسيطة والمريحة للتفكّر وتحصيل هذه العبادة المهمّة، هي أنّ الإنسان عندما يمرّ بالآثار التاريخيّة والقصور المندرسة والبيوت الخربة ويرى هذه الأطلال التي تعكس صورة ممّا كان يعيشه القدماء في هذه الأجواء ونسأل من أنفسنا: «أين ذهب سكان هذه البيوت والقصور، الذين بنوا هذه الدور والقصور بمشقّة وتعب، وأين ذهبوا، وما كانت عاقبتهم، وما هي عاقبتنا أيضآ، وماذا سنكون في نهاية المطاف؟!».

وعلى ضوء ذلك، لا ينبغي للإنسان أن يتحرّك في سبيل جمع المال والثروة بأي طريق كان وينفقه في أي مجال، لأنّه سيأتي اليوم الذي يطالب به بالجواب عن كلّ هذه الموارد، وسوف نسأل عن أعمالنا وما تركناه وراءنا، فهذه البيوت الخربة، وهذه الاطلال التي لا تنطق حسب الظاهر، ولكنّها تتحدّث معنا بلسان حالها، وفي ذلك يقول الإمام علي الهادي(ع) :

زِيادةُ المرء فِي دُنياهُ نُقصانُ         وربحُه بَعدَ مَحضِ الخَيرِ خُسرانُ

وَكُلُّ وُجدان حظٍ لا ثباتَ لَهُ         فإنّ معناهُ فِي التحقيق فُقدانُ

يا عامرآ لخرابِ الدّهرِ مجتهدآ         بالله هَل لخرابِ الدّهر عمرانُ

يا خادم الجِسم كَم تسعى لخدمتِهِ         فأنتَ بالنّفسِ لا بالجسمِ إنسانُ[3]

وثمّة أشعار جميلة ومثيرة للشاعر الخاقاني عندما مرّ على طاق كسرى تؤيد هذا المعنى[4] .

آثار التفكّر

وفي الحقيقة، فإنّ التفكّر يمثّل الباعث والدافع لجميع سلوكيات الإنسان وأعماله.

عندما ينظر الإنسان إلى عالم الوجود ويتفكّر في عالم الطبيعة فسوف يتنوّر قلبه بنور الله تعالى، وعندما ينظر إلى القصور الخربة للملوك والسلاطين فسوف يدرك خيانة الدنيا بأصحابها وغدرها لهم، وعندما ينظر إلى أوراق الأشجار والنباتات الصفراء في الخريف فسوف يتبادر إلى ذهنه فكرة المعاد والحياة بعد الموت، والشخص الذي يعتقد بالمبدأ والمعاد وفناء الدنيا فسوف يسارع إلى أعمال الخير والصلاح ويبادر إلى الحركة في خطّ التقوى والمعنويّة.

وعلى ضوء ذلك، فعندما يكون التفكّر أفضل العبادة في دائرة المفاهيم الدينيّة، فإنّما ذلك بسبب أنّ التفكّر يدعو الإنسان إلى أعمال الخير وتحلية النفس بالفضائل واجتناب الرذائل، وعلى هذا الأساس فلو قلنا أنّ أصل جميع أنواع السعادة والخير تكمن في التفكّر، وأصل جميع المساوىء والرذائل وحالات الشقاء تكمن في عدم التفكّر، فقولنا هذا لا يجانب الصواب.

 

[1] . أصول الكافي، ج 2، ص 55، باب التفكر، ح 4.

[2] . أصول الكافي، ج 2، ص 54، باب التفكّر، ح 2.

[3] . الشيخ عباس القمي، الكنى والألقاب، ج 2، ص 82.

[4] . وردت القصيدة المذكورة في ديوان أشعار الخاقاني، ص 245، آمده ومطلع قصيدته هكذا :أيّها القلب انظر بنظر العبرة لماترىواجعل من قصر المدائن مرآة الاعتبار.

captcha