كل شيء من الدنيا سماعه أعظم من عيانه..
وكل شيء من الآخرة عيانه أعظم من سماعه
أمير المؤمنين علي (ع)
يقال إنّ هناك فراغاً رهيباً في مركز كل ذرة، أي تعوم أجزائها وقطعاتها، ويؤكّد عالم الذرة المعروف «البروفسور جوليو» لو استطعنا تسليط ضغط معين على بدننا بحيث تزول كل تلك الفراغات من الذرات لأصبحت هياكلنا على هيئة ذرة غبار لا يمكن رؤيتها إلّا بالمجهر! وبالطبع فإنّ وزن هذه الذرة من الغبار 72 كيلو غرام! وعلى هذا فلو كان هناك جهاز للكبس بحجم الكرة الأرضية وحاولنا مثلاً كبس هذه الكرة لأصبحت جميع هذه الأراضي الشاسعة والقصور والكنوز والمزارع العامرة والبساتين المخضرة والمعادن والمصادر الجوفية وبالتالي جميع الكرة الأرضية بمثابة كرة صغيرة يصعب تصورها والتصديق بها.
كأنّ كل شيء متعلق بعالم المادة له نفس وضع الذرة، فهو ضخم رائع من بعيد وإذا اقتربت منه بدا لك أجوفاً إلى الحد الذي لا يسمع في جوفه اللامتناهي سوى انعكاس وقع أقدامنا تتّجه نحو هدف عبثي ومجهول ومهما نكن متشائمين فإنّنا لا نستطيع حمل أقوال عظماء الدنيا، الذين شكوا عدم شعورهم بالسعادة والموفقية حين نالوا أهدافهم وظفروا بضالتهم، على الرياء والنفاق، فمن يضمن أننا سوف لن نكون مثلهم لو سرنا على ذات الخطوات؟ ولا سيّما إنّنا جرّبنا ذلك في بعض الأمور، هلم بنا الآن لنسمع من «وَزير» نماذج لهذين الأفقين الجميلين وفي ذات الوقت الأجوفين «... أتصدقون أنّه في الوسط الذي يضطرب فيه قانون العرض والطلب فإنّ القبول في الجامعات يبدو شبيها بالفوز بجائزة نوبل، أو على الأقل الجوائز النفيسة المتعلقة باختبارات الحظ والوزن والثراء، ففي مثل هذه ليس هناك شيء أعظم متعة لذلك الفتى الذي اجتاز الامتحان أن يرى اسمه في الصحيفة ضمن أسماء أولئك الأفراد المقبولين وأنّه سيرد الجامعة!
كنت أعتقد لو حدث مثل هذا الأمر فسوف لن يكون هناك ما يعكر صفو حياتي، آنذاك سيتألق كوكب سعادتي في سماء الحياة وستبتسم لي جميع الأشياء فلن أعاني حينها من حاجة أو نقص، كنت أعتقد أنّ للجامعة لذّة ونكهة خاصة لا يمكن الاصطلاح عليها سوى بالسعادة والموفقية، ولم أكد أدخل الجامعة حتى شعرت بأنّها هي الاُخرى من المفردات الطبيعية للحياة ولا تنطوي على أيّة لذّة خاصة، بل هي مرحلة جديدة من المشاكل والصعاب التي نعاني منها في سائر مجالات الحياة وضغوط الاستاذ ليست بأقل وطأة من ضغوط الأب! فقلة الكادر التدريسي وأزمة وسائل التعليم والمعضلات المالية التي تقصم الظهر وطغيان الغريزة الجنسية وسائر أنواع الحرمان كانت تمثل أمام ناظري كجبل أشم يصعب تسلقه، كنت أظن أنّ نجاحي الباهر وسعادتي الحقيقية إنّما تكمن في الحصول على الشهادة بعد أن بذلت هذه الجهود المضنية من أجلها، على غرار ذلك البطل الذي يشعر بالنجاح حين يتسلق قمة أفرست.
نعم، كان ينبغي لي أن أتجاوز كل تلك المشاكل التي تحيط بي وهي بمثابة جدران القبر في الليلة الأولى وهي تمارس ضغوطها على روحي وجسمي فلا أفكر إلّا في الخلاص منها، ويبدو أنّ هذه الخيالات لم تكن أحسن من سابقتها قبل الجامعة، رغم أنّي كنت أشعر هذه المرة بأنّ كل شيء سيختلف، لأنني كنت لحدّ تلك اللحظة أعيش على هامش الحياة، حيث كان الجميع ينظر إليَّ بإجلال وإكبار، حيث كنت أواجه بالترحاب في أي مجلس حللت، كانت تتعالى الأصوات سيادة الدكتور، سيادة المهندس!... ومن هنا نسيت كل جهودي وأتعابي في الماضي بعد أن نلت هذه المكانة.
***
كانت الخطوة التالية بعد تخرجي من الجامعة هي البحث عن العمل، غير أن جميع الأبواب كانت موصدة بوجهي، كنت أستدين بعض الأموال لأشتري الصحيفة فأسارع قبل كل شيء لمطالعة إعلانات الاستخدام، مع ذلك لم أعثر على عمل مناسب.
كنت أشعر كأنّي تاجر كبير قد أعد مختلف السلع والبضائع الثمينة، إلّا أنّها تكدست في المخازن فليس هناك من يشتريها، فكنت أحدث نفسي: هل عميت عيون الناس بحيث لا يرون كل هذه البضاعة الفاخرة؟
هنا ترحمت على أيّام الجامعة حيث المرح واللعب وعدم المسؤولية، أمّا الآن فالجميع من قبيل الأب والأم والأخ والكاسب والبقال وصاحب الحمام كان يتوقع من «الدكتور» والحال لم أكن أملك رغيف الخبز! كانت البطالة بمثابة الإرضة التي تنهش بدني وتنخر عظامي، فقد كنت مضطراً للاستقراض الآخرين حتى من أجل كي ملابسي وصبغ حذائي ليبدو لامعاً كوجهي الذي كنت أحرص على حفظه، كنت لا أنفك عن مراجعة الدوائر والمؤسسات، فكان هذا يجيبني لقد اكتمل الكادر ولا نحتاج إلى أحد، وذلك يقول ليتك أتيت قبل يومين فقد كنّا بحاجة ماسة إليك، وثالث يقول اُشيع أنّ الوزارة الفلانية تروم استحداث دائرة فاذهب وسجل إسمك لعل القرعة تقع عليك فتكون من ضمن العاملين فيها.
وهكذا كنت أقضي أصعب الأيّام، لم أذكر فترة عانيت فيها كتلك الفترة العصيبة، فكنت أهمس لنفسي: هل يوجد من هو أشقى منّي في المجتمع؟ أين ينبغي لشخص مرموق مثلي أن يلوذ؟ كأن بيوت المدينة أقبية للقبور، وهذه السيارات الصاخبة توابيت وهؤلاء الأفراد الذين يتسكعون في الطرقات والشوارع أجهزة آلية منحت أرواح الشياطين وقد سئمت هذه القبور، فهي تفتقر لأدنى رحمة وعاطفة كأنّ غباراً غليظاً ملبداً بالحزن والاسى وقد نزل من السماء وغطى كل شيء، لقد أصبح عمري ثلاثين سنة ولا من عمل ولا بيت ولا زوجة ولا طفل ولا حياة طبيعية، لقد ذهبت تلك الجهود دون النتيجة ومازال المستقبل مرعباً غامضا! بل إنّ الخوف والهلع الذي يسيطر علي من جراء المستقبل ليفوق أضعاف ماكنت أعانيه بالماضي.
وأخيراً أسعدني الحظ بالعثور على العمل وقد شغلت عدّة مناصب حساسة بسبب استعدادي الذاتي وامكاناتي الجبارة، حتى أصبحت وزيراً لإحدى الوزارات المهمّة وقد زودت بكافة الإمكانات ومنحت كافة الصلاحيات فكدت أطير فرحاً، وهنا اعتقدت أنّ السماء قد لبست حلة جديدة، ولا مجال للحديث بين فرق هذه المرحلة عن سابقاتها، فقد كان الماضي ضرباً من الخيال والوهم، أمّا الآن فأنا أعيش الحقيقة العينية.
***
مضت مدّة حصلت على دار فخمة جميلة، كما اقتنيت سيارة رائعة، تزوجت ورزقت بولدين لطيفين، كما جنيت أموالاً طائلة، بالتالي تمكنت من الظفر بكافة الوسائل والإمكانات، ولكن ما الفائدة؟
لقد وقفت اليوم أمام المرآة لأرى الشيب قد دبّ في نصف شعري، لم أكن أشعر آنذاك بالراحة، لم ينقطع هاتف الوزارة ولو لحظة واحدة؛ الأمر الذي كان يزعجني ويسلب راحتي.
كانوا يوقظونني أحياناً منتصف الليل للقيام ببعض الأعمال المهمّة، فكنت أنهض متثاقلاً وأنا أشعر بالغثيان، كان عليَّ أن أسارع إلى الوزارة لأحل أية مشكلة ذات صلة بالحوادث التي تقع في البلاد، والأسوأ كنت أشعر بالتعب والإرهاق أحيانا فآمر البواب بأن يزيح من أمامي الملفات المتراكمة والمتداخلة التي كانت تشبه عظام الأجساد المشرحة لمختلف الأفراد وهي تكيل السب والشتم بلسان حالها، كما آمره بغلق باب غرفتي بوجه الأفراد الحيارى الذين تجشموا العناء منذ أسابيع ليحصلوا على وقت لمقابلتي، وقد ملوا الجلوس على بابي.
ماذا أفعل؟ تعبت، دع الآخرين ينظرون إلى باب مكتبي ويلعنون هذا الجالس فيه، الذي خرج تواً من بؤسه وتعاسته وقد نسي كل شيء.
ليقولوا ما شاءوا فأنا تعب مرهق، وهل الإنسان إلّا عظم ولحم ودم.
كانت لحظات سكوت وصمت عابرة، كنت أتطلع إلى المنفضة وأنا أتابع التدخين علّه يخفف من تعبي، وأتأمل كل ذكريات الماضي...
***
آه، كم كانت أيّاماً جميلة ولم أكن أقدّرها، فترة الجامعة الرائعة، بل الفترة الأروع التي سبقتها، لو لم أكن أملك أي شيء سوى الطمأنينة، الطمأنينة والاستقرار...
لست بحاجة إلى كل هؤلاء الأفراد من حولي، ولا إلى هذا العدد من المراجعين الذين لا يعرف صادقهم من كاذبهم، كأنّهم يرون أنّهم اشتروني، وكأنّي كنت يومآ زميلاً لهم في الدرس أو هناك علاقة معرفة يتوقعون عدم ردي لأي من طلباتهم، وعليّ أن اُلبي كل حاجاتهم!
إنّهم لا يعلمون أن كل توقيع لأي من هذه الملفات التي لا أطيق مطالعتها بمثابة خنجر يغرس في قلبي، حقّاً أنّ مصيري ومصير هؤلاء الأفراد ربّما يتوقف على حركة القلم التي يصطلح عليها بالتوقيع.
يزعم كل من يراجعني أنّ لديه عملاً ضرورياً ولا بدّ أن يراني ومن هنا لا يتوقف الهاتف عن الرنّ لاستلام الأعمال الضرورية كانوا يوقظوني من النوم منتصف الليل، على أنّ حوادث ضرورية جدّاً قد وقعت، وكأنّي الشخص الوحيد الذي تخلو حياتي من الأعمال غير الضرورية، لم أكن آمل بالرجوع إلى البيت في كل ليلة كنت أغادره فيها، لم يكن لدي برنامج للاستراحة ولا للاستجمام، ولا للتحدث مع الزوجة والأطفال والأصدقاء، كل يوم جلسة وندوة واجتماع و....
سيقدم اليوم الوفد العسكري الرفيع المستوى الفلاني، وغداً الوفد السياسي الكذائي، وبعد غد الفريق الاقتصادي و... وعليّ أن أرتدي الزي الرسمي لاستقبال هذه الوفود، أكاد أتقييء من هذه الرتابة والتكرار.
لقد تعبت حقّاً وأرهقت و...
قلبي يؤلمني وقرحة المعدة والاثنا عشري تقض مضجعي.
لقد قال الطبيب اليوم من المحتمل أن أكون مصاباً بسكر الدم، لقد تلفت أعصابي من كثرة تناول الأقراص والحبوب! إنّ غرفتي مليئة بالأدوية وكأنّها صيدلية، يقال أنني أعاني من كثرة العمل المتعب، بالمناسبة كم هي تافهة مثل هذه الحياة، وكلما تقدمت أكثر بدت لي أكثر تفاهة وعبثية.
كأنّي أتجه في دهليز مظلم ومرعب نحو ضالة مجهولة فلا أسمع سوى وقع أقدامي في هذا الوسط الخالي!
ليتني أعود إلى الماضي قليلاً، لا، بل ليتني لم أولد...
يا لها من حياة حمقى... ما الذي أتى بي إلى الدنيا؟ هذا أيضاً سر...
***
كانت هذه صورة من الحياة المادية التي تنطوي من بعيد على صورة جذابة، كانت تشتمل على كل شيء ولا تفتقر إلى شيء.
وعليه يتضح أنّ البحث عن الحياة الواقعية لا بدّ أن يتمّ في عالم يفوق عالم المادة والخبز والماء والمقام ولا ينبغي أن تكون النعم واللذائذ المادية هي الهدف فيها، بل ننشدها لتكون وسيلة من أجل حياة أرفع وأنبل.