لم ير البشر لحد الآن مركزاً مشوباً بالأسرار كهذه الغرفة !

لم ير البشر لحد الآن مركزاً مشوباً بالأسرار كهذه الغرفة !


لقد رأيت شخصاً محترماً أصيب بالسكتة الدماغية حيث توقف بعض جسمه إضافة إلى لسانه عن العمل، فكان أحياناً يجهد نفسه كثيراً من أجل التلفظ بكلمة، فكان يتمتم ويتلعثم كالأطفال ثم يكف بغتة عن الكلام - إلّا أنّ العجيب أنّه كان يقرأ سورة الفاتحة والسورة الأخرى في الصلاة بكل طلاقة وفصاحة! فإن قلنا لعل ذلك بسبب كثرة تكراره لهذه الكلمات، فالواقع كانت هنالك عدّة كلمات أخرى يكررها في حياته أكثر من تكراره لسورة الفاتحة والسورة الأخرى، وإن قلنا رغبته الشديدة قد أثرت على جهاز النطق المشلول فجعلته ينطق، فإن ذلك خصوصية أخرى من الخصائص العجيبة لهذا الجهاز الذي يعمل حين الشلل، وهو مشلول في ذات الوقت.‌

كان من المقرر أن نبدأ بحث الأسرار انطلاقاً من أنفسنا، من مركز إدراكاتنا ومن أدمغتنا وما ورائها وما يصطلح عليه بأنفسنا وذواتنا، وتطالعنا هنا دنيا الأسرار التي إنّ قضينا عمرنا من أجل التعرف عليها فما زالت هنالك الكثير من الأمور الغامضة فيها.

إنّه لمن المذهل حقاً أن ندرك جميع الأشياء بعقولنا بينما نصاب بالدوار حين نفكر في ماهية التفكير لدى هذا العقل.

إننا نتساءل: كيف ندرك الأشياء؟ ما المفهوم الواقعي للإدراك؟ أين تكمن خواطرنا؟

ما كيفية علاقة الروح بالجسم وبالخارج؟

ما الدور الذي تلعبه هذه القبضة الرمادية و التي تبدو غير منظمة ولا مستهلكة والمحبوسة هذا العمر المديد في جمجمة الإنسان؟

وأساساً من أين تنبع كل هذه القابلية و الاستعداد العجيب المذهل؟ هذه هي الخطوة الأولى لتعرفنا على الوجود الذي يكتنفه كل هذا التعقيد، ولكن لا ينبغي أن يفهم ذلك على أننا هزمنا في الخطوة الأولى في سبيل حل ألغاز الوجود، ترى أليس من الأفضل أن نعزف عن هذا الأمر ما دمنا في بدايته، ونغض النظر عن هذا «الخيال المحال»، فهذا سفر تستهلك الخطوة الأولى فيه تمام عمرنا، وعليه فما أحرانا أن نقتدي ببعض الفلاسفة الذين صوروا للجميع استحالة التعرف على الوجود، فنقبع في زاوية ونتفرغ للحياة والمعيشة، ولكن هل العيش يعني (الأكل والشرب والنوم والشهوة)؟ كلا، ليس الأمر كذلك، فمثلنا مثل المسافر الذي يمر بسيارته في جادة في ليلة ظلماء، فمصابيح السيارة إنّما تضيء له جانباً من الجادة وتقوده إلى المطلوب، أمّا على طرفي الجادة فهنالك الآلاف المؤلفة من المباني والموجودات غير المعروفة والتي تغط في ظلمة معتمة، فمن المسلم به أن عدم معرفة هذه المباني الغامضة ليس من شأنه أبداً أن يحول دون مواصلة المسافر لسيره، بل حتى لا ينبغي له التقليل من سرعته، نحن بدورنا نشق طريقنا وسط هذه الأسرار فنندفع إلى الأمام على ضوء ما نعتمده من معارف وحلول، فكأنّ آلاف النقط المجهولة قد كمنت من حولنا، وسندنا في هذه المسيرة «معلوماتنا» لا «مجهولاتنا».

—–سنقف ـ من خلال عدّة أدلة في بحث استقلال الروح ـ على هذه الحقيقة، و هي أنّ مادتنا الدماغية «وسيلة دقيقة» لأنشطة قوى خفية تدعى الروح، لا نفس الروح، وبعبارة أخرى الدماغ «بيت» لا «صاحب البيت» وبعبارة أوضح هو تلسكوب عظيم لرصد كواكب سماء الوجود لا نفس «الراصد»!

و بالتالي الدماغ مهندس «غرفة السيطرة».

ولما انسحب الكلام إلى «غرفة السيطرة» دعونا نتحدث قليلاً عنها، فمثل هذه التشبيهات والأمثلة تذلل الطرق الصعبة.

فنرى هذه الأيّام ـ حين نتفقد بعض المؤسسات الصناعية الحديثة والضخمة ـ غرفة تعرف باسم «غرفة السيطرة»، وتمتاز هذه الغرفة بهدوئها وسكونها، إلّا أنّها مليئة بالشاشات والأزرار والمفاتيح والمصابيح الصغيرة الملونة، ويتولى المهندسون من داخل هذه الغرفة السيطرة والاشراف على كافة جزئيات تلك المؤسسة الصناعية التي قد تبلغ سعتها أحياناً عشرات الكيلو مترات المربعة.

فالضغط على زر معين يشغل قسماً من تلك المؤسسة وبفتح أو بغلق ذلك الأنبوب الكبير بصورة تلقائية، وبضغط الزر الفلاني يحدّون من سرعة ذلك الجهاز أو يضاعفون من سرعته، وإذا اشتعل الضوء الأحمر للمصباح دلّ على الخطر الفلاني في ذلك القسم، والأهم من كل ذلك العقارب والمؤثرات المتناثرة على الشاشات والتي تشبه إلى حد بعيد صحيفة أعمال الإنسان، حيث تعكس طريقة عمل كافة الأجهزة.

والواقع هو أنّ دماغ الإنسان غرفة سيطرة في معمل بدن الإنسان، فتلك الغرفة المليئة بالأسرار ومن خلال ما أودعت من أزرار ومصابيح بمجرد إثارتها لخلية أو بعض الخلايا يشرع قسم من بدن الإنسان بالعمل أو بالعكس يتوقف عنه، فالقلب والمعدة وجهاز التنفس والعين والاذن واللسان إنّما تعمل بالأوامر الصادرة من غرفة السيطرة هذه، والفارق بين هذه الغرفة وسابقتها في أنّ أزرارها ومصابيحها تنبض بالحياة، كلها حيةّ تتغذى وتنمو، إلّا أنّها صغيرة  ولطيفة للغاية.

ورغم أنّ خلاياه أكثر لطافة من أوراق الأزهار، إلّا أنّها أكثر دواماً من الحديد والفولاذ، فهي تصلح نفسها على الدوام، كما تختلف مع كافة المكائن ذات الحركة الرتيبة حيث تعرف بالتجدد والسير نحو التكامل، والعجيب أنّ هذا الجهاز لا يفقد حيويته وقدرته حتى في حالة ضعف سائر القوى البدنية واتجاهها نحو العجز والتآكل، طبعاً بشريطة قيامه بوظيفته وعدم تعطيله.

أو ليس هذا ما نراه بوضوح لدى العلماء والمفكرين وزعماء السياسة والاقتصاد الذين يتمتعون حتى آخر لحظات عمرهم بقدراتهم العلمية والفكرية (باستثناء بعض الحالات)، والأمر وإن دلّ على الخصوصية العجيبة للدماغ، فإنّه يشير كذلك إلى استقلال الروح حيث تبقى قوية مفعمة بالعلم والقدرة رغم تآكل كافة أجهزة البدن وانحطاط قدرتها وطاقتها.

—–غالباً ما نسمع أنّ الشخص الفلاني قد أصيب للأسف بسكتة دماغية، بحيث يفقد حياته إن كانت سكتة تامة، أمّا إن كانت جزئية فإنّما تتوقف بعض أعضائه عن الحركة، حيث يشل أحياناً نصف الجسم، وأحياناً أخرى اللسان وبعض أجزاء الوجه، وأخيراً العين والاذن التي تجعل الإنسان في حالة يرثى لها، أحد الأصدقاء، كان يقول: كل شيء كامله حسن، إلّا السكتة فناقصها أفضل من كاملها!

قلت: يبدو أنّ هذه أيضاً كاملها حسن، فهي تحسم حالة الإنسان، إمّا الحياة في هذه الدنيا وإمّا الموت في تلك الدنيا، لا أن تتركه موجوداً مشلولاً معلقاً! طبعآ كان مرادي أنّ السكتة الدماغية كما يظهر من اسمها هي التوقف المفاجىء لجميع أو بعض غرفة السيطرة العجيبة.

كثيراً ما تنفجر شعيرة دموية (وهي أنحف وألطف بكثير من الشعرة ومسؤولة عن تغذية الخلايا الدماغية وإثر فقدانها لقوة الارتجاع) فتقع قطرة صغيرة من الدم على قسم صغير من الدماغ فتفسده وتشل حركته عن العمل.

قد يكون هذا الزر في منتهى الصغر والنحافة هو زر السيطرة على اللسان فيتوقف اللسان فوراً عن النطق، والحال لم يشهد اللسان أي اختلال أو عارض، أو يكون مرتبطاً بالعين فتنعدم رؤيتها دون أن تتعرض بنية العين لأي خطر وإن كان مرتبطاً بأعصاب الطرف الأيمن من الجسم فسيصاب بالشلل، وإذا عولجت القطرة الدموية وزالت وتمّ أصلاح ذلك الزر المتوقف عن العمل، إستأنف ذلك الجهاز المرتبط بها عمله من جديد.

لقد رأيت شخصاً محترماً أصيب بالسكتة الدماغية حيث توقف بعض جسمه إضافة إلى لسانه عن العمل، فكان أحياناً يجهد نفسه كثيراً من أجل التلفظ بكلمة، فكان يتمتم ويتلعثم كالأطفال ثم يكف بغتة عن الكلام - إلّا أنّ العجيب أنّه كان يقرأ سورة الفاتحة والسورة الأخرى في الصلاة بكل طلاقة وفصاحة! فإن قلنا لعل ذلك بسبب كثرة تكراره لهذه الكلمات، فالواقع كانت هنالك عدّة كلمات أخرى يكررها في حياته أكثر من تكراره لسورة الفاتحة والسورة الأخرى، وإن قلنا رغبته الشديدة قد أثرت على جهاز النطق المشلول فجعلته ينطق، فإن ذلك خصوصية أخرى من الخصائص العجيبة لهذا الجهاز الذي يعمل حين الشلل، وهو مشلول في ذات الوقت.

من يسعه التصديق بعدم وجود أي تنسيق وبرامج مسبقة للعمل في هذه الغرفة الاستثنائية للسيطرة، بحيث كانت هذه الاعجوبة وليدة الصدف؟!

وهنا نقول: ألا يكفي هذا المقدار من معرفة الذات والاطلاع على أوضاع هذا المركز العجيب لكشف أول سر من أسرار الخليقة، والمراد به تلك القدرة والعلم المطلق الذي يدير شؤون العالم؟

فكيف للعقل أن يخلق ما لا يملك.

أم كيف يخلق مثل هذه الآلة الحاسبة العجيبة من افتقر للحساب والنظام في عمله وكانت الصدفة هي المميزة لأفعاله، وكيف لمن لا يحسن الحساب والقانون أن تكون جميع أعماله مبرمجة على أساس القانون والقاعدة؟!

وهنا تكون معرفة النفس دليلاً وسبيلاً لمعرفة الله.

captcha