الحمد والثناء على الله.. قبسات من تفسير سورة الفاتحة

الحمد والثناء على الله.. قبسات من تفسير سورة الفاتحة


إنّ الإيمان بيوم القيامة، وبتلك المحكمة الإلهيّة الكبرى التي يخضع فيها كل شيء للإحصاء الدقيق، له الأثر الكبير في ضبط الإنسان أمام الزلّات، ووقايته من السقوط في المنحدرات‌

العالم مغمور في رحمته تعالى

بعد البسملة، يأتي أول واجبات العباد وهو أن يستحضر دوماً مبدأ عالم الوجود، ونعمه اللامتناهية، هذه النعم التي تحيطنا وتغمر وجودنا، وتهدينا إلى معرفة الله من جهة، وتدفعنا على طريق العبودية من جهة اُخرى.

وعندما نقول أنّ النعم تشكّل دافعاً ومحرّكاً على طريق العبودية، لأنّ الإنسان مفطور على البحث عن صاحب النعمة حينما تصله النعمة، ومفطور على أن يشكر المنعم على إنعامه.

من هنا فإنّ علماء الكلام (علماء العقائد) يتطرقون في بحوثهم الأولية لهذا العلم إلى «وجوب شكر المنعم» باعتباره أمراً فطرياً وعقلياً دافعاً إلى معرفة الله سبحانه.

وإنّما قلنا إنّ النعم تهدينا إلى معرفة الله، لأنّ أفضل طريق وأشمل سبيل لمعرفته سبحانه، دراسة أسرار الخليقة، وخاصة ما يرتبط بوجود النعم في حياة الإنسان.

وممّا تقدم نفهم لماذا ابتدأت سورة الحمد بعبارة: (آلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ آلْعَالَمِينَ).

«الحمد» في اللغة: الثناء على عمل أو صفة طيبة مكتسبة عن اختيار، أي حينما يؤدّي شخص عملاً طيّباً عن وعي، أو يكتسب عن اختيار صفة تؤهله لأعمال الخير فإنّنا نحمده ونثني عليه. ولو علمنا أنّ الألف واللام في (الحمد) هي لاستغراق الجنس، لعلمنا أنّ كل حمد وثناء يختص بالله سبحانه دون سواه.

فثناؤنا على الآخرين ينطلق من ثنائنا عليه تعالى، لأنّ مواهب الواهبين كالأنبياء في هدايتهم للبشر، والمعلمين في تعليمهم، والكرماء في بذلهم وعطائهم، والأطباء في علاجهم للمرضى وتطبيبهم للمصابين، إنّما هي في الأصل من ذاته المقدسة.

وهكذا الشمس حين تغدق علينا بأشعتها، والسحب بأمطارها، والأرض ببركاتها، كل ذلك منه سبحانه، ولذلك فكل الحمد له.

جدير بالذكر أنّ الحمد ليس بداية كل عمل فحسب، بل هو نهاية كل عمل أيضاً كما يعلمنا القرآن. يقول سبحانه في الآية (10) من سورة يونس عن أهل الجنة: (دَعْوَيهُمْ فِيهَا سُبْحَانَك آللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـمٌ وَءَاخِرُ دَعْوَيهُمْ أَنِ آلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ آلْعَالَمِينَ).

رحمة الله الواسعة

أما صفتي «الرّحمن» و«الرّحيم» تتكرران في البسملة والحمد، «والملتزمون» بذكر البسملة في السورة يكررون هاتين الصفتين في صلواتهم اليومية الواجبة ثلاثين مرّة، وكذلك في الحمد وبذلك يصفون الله برحمته ستين مرّة يومياً. وهذا في الواقع درس لكل جماعة بشرية سائرة على طريق الله، وتواقة للتخلق بأخلاق الله، أنّه درس يبعد البشرية عن تلك الحالات التي شهدها تاريخ الرق في ظل القياصرة والأكاسرة والفراعنة.

الإيمان بيوم القيامة

في هذه السورة تلفت الأنظار إلى أصل مهم آخر من اُصول الإسلام، هو يوم القيامة: (مَالِك يَوْمِ آلدِّينِ) وبذلك يكتمل محور المبدأ والمعاد، الذي يعتبر أساس كل إصلاح أخلاقي واجتماعي في وجود الإنسان.

إنّ تعبير «مالك» يوحي بسيطرة الله التامة وهيمنته المستحكمة على كل شيء وعلى كل فرد في ذلك اليوم، حيث تحضر البشرية في تلك المحكمة الكبرى للحساب، وتقف أمام مالكها الحقيقي للحساب، وترى كل ما فعلته وقالته، بل وحتى ما فكرت به، حاضراً، فلا يضيع أي شيء ـ مهما صغر ـ ولا ينسى، والإنسان ـ وحده ـ يحمل أعباء نتائج أعماله، بل نتائج كل سنّة استنّها في الأرض أو مشروع أقامه.

ومالكية الله في ذلك اليوم دون شك ليست ملكية اعتبارية، نظير ملكيتنا للأشياء في هذا العالم، فملكيتنا هذه عقد يبرم بموجب تعامل ووثائق، وينفسخ بموجب تعامل آخر ووثائق اُخرى، لكن ملكية الله لعالم الكون ملكية حقيقية. وبعبارة اُخرى: مالكية الله نتيجة خالقيته وربوبيته، فالذي خلق الموجودات ورعاها وربّاها، وأفاض عليها الوجود لحظة بلحظة، هو المالك الحقيقي للموجودات.

وقد يسأل سائل فيقول: لماذا وصفنا الله بأنّه (مَالِك يَوْمِ آلدِّينِ) بينما هو مالك الكون كله؟ والجواب هو أنّ الله مالك لعالم الدنيا والآخرة، لكن مالكيته ليوم القيامة أبرز وأظهر، لأنّ الإرتباطات المادية والملكيات الاعتبارية تتلاشى كلها في ذلك اليوم، وحتى الشفاعة لا تتم يومئذ إلّا بأمر الله: (يَوْمَ لاَ تَمْلِك نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَآلاَْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)[1] .

إنّ الإيمان بيوم القيامة، وبتلك المحكمة الإلهيّة الكبرى التي يخضع فيها كل شيء للإحصاء الدقيق، له الأثر الكبير في ضبط الإنسان أمام الزلّات، ووقايته من السقوط في المنحدرات، وأحد أسباب قدرة الصلاة على النهي عن الفحشاء والمنكر هو أنّها تذكّر الإنسان بالمبدأ المطلع على حركاته وسكناته وتذكره أيضآ بمحكمة العدل الإلهي الكبرى.

وفي تفسير نور الثقلين عن علىّ بن إبراهيم: كان علىّ بن الحسين(ع): «إذا قرأ (مَالِك يَوْمِ آلدِّينِ) يكرّرها حتى يكاد أن يموت».

أمّا تعبير (يَوْمِ آلدِّينِ) فحيثما ورد في القرآن فهو يعني يوم القيامة، وتكرر ذلك في أكثر من عشرة مواضع من كتاب الله العزيز، وفي الآيات (17 إلى 19) من سورة الإنفطار ورد هذا المعنى بصراحة.

وأمّا سبب تسمية هذا اليوم بيوم الدين، فلأنّ يوم القيامة يوم الجزاء، و«الدين» في اللغة: «الجزاء»، والجزاء أبرز مظاهر القيامة، ففي ذلك اليوم تُكشف السرائر ويُحاسب الناس عمّا فعلوه بدقة، ويرى كل فرد جزاء ما عمله صالحآ أم طالحآ.

وفي تفسير مجمع البيان عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(ع): «ملك يوم الدّين يعني يوم الحساب». و«الدين» استناداً إلى هذه الرواية يعني (الحساب).

 الإنسان بين يدي الله: في هذه الآية يستشعر الإنسان ـ بعد رسوخ أساس العقيدة ومعرفة الله في نفسه ـ حضوره بين يدي الله... يخاطبه ويناجيه، يتحدث إليه أوّلاً عن تعبده، ثم يستمد العون منه وحده دون سواه: (إِيَّاك نَعْبُدُ وَإِيَّاك نَسْتَعِينُ).

فالآيات السابقة تحدثت عن توحيد الذات والصفات، وهذه الآية تتحدّث عن توحيد العبادة وتوحيد الأفعال.

فتوحيد العبادة: يعني الإعتراف بأنّ الله سبحانه هو وحده اللائق بالعبادة والطاعة والخضوع، وبالتشريع دون سواه، كما يعني تجنب أىّ نوع من العبودية والتسليم لغير ذاته المقدسة.

وتوحيد الأفعال: هو الإيمان بأنّ الله هو المؤثّر الحقيقي في العالم (لا مؤثّر في الوجود إلّا الله). وهذا لا يعني إنكار عالم الأسباب، وتجاهل المسببات، بل يعني الإيمان بأنّ تأثير الأسباب، إنّما كان بأمر الله.

وثمرة هذا الاعتقاد أنّ الإنسان يصبح معتمداً على «الله» دون سواه، ويرى أنّ الله هو القادر العظيم فقط، ويرى ما سواه شبحاً لا حول له ولا قوّة، وهو وحده سبحانه اللائق بالإتكال والاعتماد عليه في كل الاُمور. وهذا التفكير يحرر الإنسان من الإنشداد إلى أيّ موجود من الموجودات، ويربطه بالله وحده.

] 1[ سورة الحمد: الآيتان 5 -  6         

إنّ كلمة «نعبد» و «نستعين» بصيغة الجمع تشير إلى أنّ العبادة ـ خاصة الصّلاة ـ تقوم على أساس الجمع والجماعة، وعلى العبد أن يستشعر وجوده ضمن الجمع والجماعة، حتّى حين يقف متضرّعاً بين يدي الله، فما بالك في المجالات الاُخرى.

وهذا الاتجاه في العبادة يعني رفض الإسلام لكل ألوان الفردية والإنعزال.

الاستعانة به تعالى في كل الاُمور: يواجه الإنسان في مسيرته التكاملية قوى مضادة داخلية (في نفسه)، وخارجية (في مجتمعه)، ويحتاج في مقاومة هذه القوى المضادة إلى العون والمساعدة، ومن هنا يلزم على الإنسان عندما ينهض صباحاً أن يكرر عبارة (إِيَّاك نَعْبُدُ وَإِيَّاك نَسْتَعِينُ) ليعترف بعبوديته لله سبحانه، وليستمد العون منه في مسيرته الطويلة الشاقة، وعندما يجنّ عليه الليل لا يستسلم للرقاد إلّا بعد تكرار هذه العبارة أيضاً، والإنسان المستعين حقّآ، هو الذي تتضاءل أمام عينيه كل القوى المتجبّرة المتغطرسة، وكل الجواذب المادية الخادعة، وذلك ما لا يكون إلّا حينما يرتفع الإنسان إلى مستوى القول: (إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ آلْعَالَمِينَ)[2] .

 

 السير على الصراط المستقيم: بعد أن يقّر الإنسان بالتسليم لربّ العالمين، ويرتفع إلى مستوى العبودية لله والإستعانة به تعالى، يتقدم هذا العبد بأوّل طلب من بارئه، وهو الهداية إلى الطريق المستقيم، طريق الطّهر والخير، طريق العدل والإحسان، طريق الإيمان والعمل الصالح، ليهبه الله نعمة الهداية كما وهبه جميع النعم الاُخرى.

فالإنسان في هذه المرحلة مؤمن طبعاً وعارف بربّه، لكنه معرّض دوماً بسبب العوامل المضادة إلى سلب هذه النعمة والانحراف عن الصراط المستقيم.

ثمّة سؤال يتبادر إلى الإذهان عن سبب طلبنا من الله الهداية إلى الصراط المستقيم، تُرى هل نحن ضالون كي نحتاج إلى هذه الهداية؟ وكيف يصدر مثل هذا الأمر عن المعصومين وهم نموذج الإنسان الكامل؟

وفي الجواب نقول: أوّلاً: إنّ الإنسان معرض في كل لحظة إلى خطر التعثر والانحراف عن مسير الهداية ولهذا كان على الإنسان تفويض أمره إلى الله، والإستمداد منه في تثبيت قدمه على الصراط المستقيم. ثانيآ: إنّ الهداية هي السير على طريق التكامل، حيث يقطع فيه الإنسان تدريجياً مراحل النقصان ليصل إلى المراحل العليا.

وممّا تقدم نفهم سبب تضرع حتى الأنبياء والأئمة: لله تعالى ليهديهم (آلصِّرَاطَ آلْمُسْتَقِيمَ) فالكمال المطلق لله تعالى، وجميع ما سواه يسيرون على طريق التكامل، فما الغرابة في أن يطلب المعصومون من ربّهم درجات عليا.

ولمزيد من التوضيح نذكر الحديث التالى:

في معاني الأخبار عن الإمام جعفر بن محمّد الصّادق(ع) قال في تفسير (إِهْدِنَا آلصِّرَاطَ آلْمُسْتَقِيمَ): «يعني أرشدنا للزوم الطّريق المؤدّي إلى محبّتك، والمبلّغ إلى جنّتك، والمانع من أن نتّبع أهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك».

ما هو الصراط المستقيم؟ هذا الصراط كما يبدو من تفحص آيات الذكر الحكيم هو دين التوحيد والالتزام بأوامر الله، ولكنه ورد في القرآن بتعابير مختلفة.

فهو الدين القيّم ونهج إبراهيم(ع) ونفي كل أشكال الشرك كما جاء في الآية (161) من سورة الأنعام: (قُلْ إِنَّنِى هَدَينِى رَبِّى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ آلْمُشْرِكِينَ). فهذه الآية الشريفة عرّفت الصراط المستقيم من ناحية ايديولوجية.

إنّ «الراغب» يقول في مفرداته في معنى الصراط: إنّه الطريق المستقيم، فكلمة الصراط تتضمن معنى الاستقامة ووصفه بالمستقيم كذلك تأكيد على هذه الصفة.

 خطّان منحرفان: إنّ هذه الآية تفسير واضح للصراط المستقيم المذكور في الآية السابقة، إنّه صراط المشمولين بأنواع النعم (مثل نعمة الهداية، ونعمة التوفيق، ونعمة القيادة الصالحة، ونعمة العلم والعمل والجهاد والشهادة) لا المشمولين بالغضب الإلهي بسبب سوء فعالهم وزيغ قلوبهم، ولا الضائعين التائهين عن جادة الحق والهدى.

 

[1] . سورة الانفطار /19.

[2] . سورة الأنعام /162.

captcha