لا ريب أن أبا الفضل العباس عليه السلام حامل لواء ثورة عاشوراء يعتبر مظهر محبة الله، وهو تجسيد للعزة والمعرفة في طريق الجهاد من أجل صيانة الإسلام النبوي، وكان السند والمحامي عن إمامة وولاية الإمام الحسين عليه السلام. وهو الرجل العظيم صانع الملاحم البطولية الذي يحسده يوم القيامة جميع الشهداء على المكانة التي نالها، وقد امتلك مواصفات لا مثيل لها نحاول أن بيانها في هذا البحث مستنيرين بأفكار سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي(مد ظله) العميقة، ونبين مقولتي العزة والمعرفة التي أبداهما العباس(عليه السلام) في واقعة عاشوراء:
الدفاع عن الولاية؛ عنصر أساسي في تحقق العزة والمعرفة
من الواضح أننا مدينين لآبائنا وأجدادنا الذين عرّفونا على نعمة ولاية أهل البيت عليهم السلام، لكي ننال فخر اتباع هؤلاء العظماء، ونسير في ركبهم وتحت لواء هديهم[1]، وفي مجال بيان هذه النعمة الإلهية يجب الإشارة إلى سيرة أبي الفضل العباس(عليه السلام) باعتباره الأنموذج البديل في واقعة عاشوراء، حيث أنه مع مغيب شمس يوم التاسع من عاشوراء تحركت حشود الأعداء القادمة من جهة الصحراء نحو معسكر الإمام الحسين عليه السلام، فأرسل الإمام أخاه أبا الفضل العباس(عليه السلام) ومعه عشرون فارسا للحوار معهم، فقصدهم العباس عليه السلام ومن معه حتى وصلوا إليهم[2]، ثم اتجه العباس نحو جيش الأعداء وقدم لهم طلب الإمام الحسين عليه السلام بأن يؤجلوا القتال هذه الليلة فقط[3]
رفض رسالة الأمان، تجلي عزة ومعرفة أبي الفضل العباس(عليه السلام)
لا شك في أن الإمام الحسين بن علي عليهما السلام هو حامل لواء أباة الضيم الذي علم العالم دروس الغيرة واختيار الموت في ظل السيوف على الحياة الذليلة. وقد عرض الأعداء عليه هو وأنصاره الأمان، ولكنه رفض بإباء ولم يخضع للذل.[4]،[5]، ولم يُقتل الإمام الحسين عليه السلام وحده في عاشوراء سنة 61 هجرية، بل قُتل معه جميع أصحابه، وقد شربوا كلهم كأس الشهادة في أوج العزة والكرامة والشجاعة[6]. وما رفض أبي الفضل العباس عليه السلام[7] لرسالة الأمان إلا نموذج لهذه الحقيقة الساطعة[8].
عند الحديث عن عزة أبي الفضل العباس عليه السلام ومعرفته بالإمام الحسين عليه السلام وخاصة في ليلة العاشر من محرم ورفضه رسالة الأمان نقول: حينما أتى الشمر برسالة الأمان إلى قمر بني هاشم أبي الفضل العباس عليه السلام[9]، رفضها العباس عليه السلام بشدة[10] ، وكذلك حينما سمع كلام زهير بن القين الذي كان يتحدث عن ضرورة نصرة الإمام الحسين عليه السلام، ارتعد أبو الفضل العباس عليه السلام وتمطّى في ركابه حتّى قطعه، وقال: يا زهير، تشجعني في مثل هذا اليوم؟ والله لأُريَّنكَ شيئاً ما رأيتَه قط.[11]،[12].
ولذا فإن الأعداء وإن استطاعوا التمثيل بأجسادهم الطاهرة وتقطيعها إربا إربا، لكنهم لم يُنقصوا شيئا من عزتهم وسموهم[13]. وما أروع ما قاله الشاعر في بيان هذه الحقيقة:
قَدْ غَيَّرَ الطَّعْنُ مِنْهُمْ كُلَّ جارِحَةٍ إِلَّا الْمَكارِمَ فِي أَمْنٍ مِنَ الْغِيَرِ [14]
الوفاء لسيد الشهداء؛ عظمة معرفة أبي الفضل العباس عليه السلام في ليلة عاشوراء
لا ريب أن مشهد إعلان الوفاء الذي عرضه الأنصار في ليلة عاشوراء يعتبر من أجمل وأسمى مشاهد التاريخ الإنساني[15]. حيث تجلّى فيه وفاء وإخلاص ومعرفة أبي الفضل العباس عليه السلام في ليلة عاشوراء حيث أنه بعد أن خطب الإمام الحسين عليه السلام في أصحابه وأهل بيته وأحلهم من بيعته، قام العباس بين علي مجيبا على طلب أخيه وقال: معاذ الله والشهر الحرام ، فماذا نقول للناس إذا رجعنا إليهم ، إنّا تركنا سيّدنا وابن سيّدنا وعمادنا ، وتركناه غرضاً للنبل ، ودريئةً للرماح ، وجزراً للسباع ، وفررنا عنه رغبةً في الحياة ؟! معاذ الله ، بل نحيا بحياتك ، ونموت معك!!.[16].
وكذلك قال أخوة الإمام وأبناؤه وأبناء أخوته وأبنائهم، وأبناء عبد الله بن جعفر(أبناء زينب عليها السلام) كما قال العباس[17]، وقد فرح الإمام الحسين عليه السلام لكل هذا الوفاء والإخلاص والشجاعة في اختيار الطريق الأسمى والمصير الأفضل[18].
وفي هذا المجال يمكن الإشارة ما روي عن فخر المخدّرات زينب(عليها السّلام) أنّها قالت: لمّا كانت ليلة عاشر من المحرّم خرجت من خيمتي لأتفقّد أخي الحسين وأنصاره ، وقد أفرد له خيمة ، فوجدته جالساً وحده يناجي ربّه ويتلو القرآن ، فقلت في نفسي : أفي مثل هذه الليلة يُترك أخي وحده ؟! والله لأمضين إلى إخوتي وبني عمومتي وأعاتبهم بذلك. فأتيت إلى خيمة العباس ، فسمعت منها همهمة ودمدمة فوقفت على ظهرها فنظرت فيها ، فوجدت بني عمومتي وإخوتي وأولاد إخوتي مجتمعين كالحلقة ، وبينهم العباس ابن أمير المؤمنين وهو جاثٍ على ركبتيه كالأسد على فريسته ؛ فخطب فيهم خطبة ما سمعتها إلاّ من الحسين ، مشتملة على الحمد والثناء لله ، والصلاة والسلام على النبي وآله. ثمّ قال في آخر خطبته : يا إخوتي ، وبني إخوتي ، وبني عمومتي ، إذا كان الصباح فما تقولون ؟ قالوا : الأمر إليك يرجع ، ونحن لا نتعدّى لك قولاً[19].
ثم قال العباس عليه السلام: إنّ هؤلاء(أعني الأصحاب) قوم غرباء، والحمل ثقيل لا يقوم إلاّ بأهله، فإذا كان الصباح فأوّل مَنْ يبرز إلى القتال أنتم[20]؛ نحن نقدمهم إلى الموت لئلاّ يقول الناس قدّموا أصحابهم، فلمّا قُتلوا عالجوا الموت بأسيافهم ساعة بعد ساعة فقامت بنو هاشم، وسلّوا سيوفهم في وجه أخي العباس، وقالوا: نحن على ما أنت عليه[21].
ملحمة الماء والعطش؛ عظمة وإيثار أبي الفضل العباس عليه السلام
العباس بن علي عليه السلام حامل لواء جيش أخيه الإمام الحسين عليه السلام. وحينما رأي جميع أنصاره وأخوته وأبناء عمومته شربوا كاس الشهادة، بكى شوقا إلى لقاء الله وتقدم وحمل اللواء وطلب من أخيه الإمام الحسين عليه السلام الإذن بالنزول إلى ساحة المعركة[22]. وحينئذ بكى الإمام عليه السلام حيث اعتصره الأسى لفراق أخيه بحيث بلل لحيته الشريفة من دموع عينيه وقال:
الطريحي: وروي أن العباس بن علي(ع) كان حامل لواء أخيه الحسين(ع)، فلما رأى جميع عسكر الحسين(ع) قتلوا وإخوانه وبني عمه، بكى وأنّ إلى لقاء ربه، اشتاق وحن، فحمل الراية وجاء نحو أخيه الحسين(ع)، وقال: يا أخي! هل رخصة؟ فبكى الحسين(ع) بكاء شديدا حتى ابتلت لحيته المباركة بالدموع، ثم قال: يا أخي! كنت العلامة من عسكري، ومجمع عددنا، فإذا أنت غدوت يؤول جمعنا إلى الشتات، وعمارتنا تنبعث إلى الخراب[23].
فقال العباس: فداك روح أخيك يا سيدي! قد ضاق صدري من الحياة الدنيا، وأريد أخذ الثأر من هؤلاء المنافقين[24] فقال الحسين(ع): إذا غدوت إلى الجهاد فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلا من الماء [25].
ثم ذهب العباس إلى الأعداء ووعظهم وحذرهم، فلم ينفعهم [26] فرجع إلى أخيه فأخبره، فسمع الأطفال ينادون: العطش العطش، فركب فرسه وأخذ رمحه والقربة، وقصد نحو الفرات، فأحاط به أربعة آلاف ممن كانوا موكلين بالفرات، ورموه بالنبال فكشفهم، وقتل منهم على ما روي ثمانين رجلا حتى دخل الماء[27]. فلما أراد أن يشرب غرفة من الماء، ذكر عطش الحسين وأهل بيته، وقال:
يا نفس من بعد الحسين هوني وبعده لا كنت أن تكون
أتشربين بارد المعيــــن وهذا حسين شارب المنون
هيهات ما هذا فعال ديني ولا فعال صادق اليقين
ثم رمى الماء وملأ القربة وحملها على كتفه الأيمن، وتوجه نحو الخيمة، فقطعوا عليه الطريق وأحاطوا به من كل جانب، فحاربهم حتى ضربه نوفل الأزرق على يده اليمنى فقطعها، فحمل القربة على كتفه الأيسر، فضربه نوفل فقطع يده اليسرى من الزند، فحمل القربة بأسنانه، فجاءه سهم فأصاب القربة وأريق ماؤها، ثم جاءه سهم آخر فأصاب صدره، فانقلب عن فرسه وصاح إلى أخيه الحسين: أدركني[28].
تحقق العزة على ضوء ارتباط التدين وحب الاستشهاد
من عناصر عزة أبي الفضل العباس عليه السلام يمكن أن نذكر دفاعه التام عن الإسلام النبوي، وقد كان ثمن ذلك الشهادة في طريق التقرب إلى الله، لذلك نرى أنه بعد استشهاد ثلة من بني هاشم أحضر العباس عليه السلام أخوته – عبد الله وعثمان وجعفر – وطلب منهم قائلا: تقدّموا يا بني أمي حتى أراكم نصحتم لله ولرسوله والتفت إلى عبد الله وكان أكبر من عثمان وجعفر وقال: تقدم يا أخي حتى أراك قتيلا وأحتسبك فقاتلوا بين يدي أبي الفضل حتى قُتلوا بأجمعهم.[29]
وكذلك حينما دنا الموت من هذا القائد الشجاع قال:
لا أرهب الموت إذا الموت رقى حتى أوارى في المصاليت لقا
نفسي لابن المصطفى الطهر وقا انى أنا العباس أغدو بالسقا
ولا أخاف الشر يوم الملتقى[30]،[31]
ومن هنا حينما قطع الأعداء يمين أبي الفضل العباس(ع) قال مرتجزا:
وَاللَّهِ إنْ قَطَعْتُمُ يَميني
إِنِّي أُحامِي أَبَداً عَنْ دينِي
وَ عَنْ إِمامٍ صادِقِ الْيَقينِ
نَجْلِ الْنَّبِيِّ الطَّاهِرِ الْأَمينِ[32]
وعليه يجب القول بأنه في كل خطوة كان هناك درسٌ للفضيلة والإيثار، درسٌ للشجاعة والبسالة والتضحية.
حقا أي شخص نقل لنا هذا المشهد الفريد للتضحية حيث وصل أبو الفضل العباس عليه السلام إلى الماء ولم يشرب منه قطره حتى استشهد؟! هل هو الإمام الحسين عليه السلام أو أبناءه الذي كانوا يرقبون ما يحدث من بعيد؟! أو الأئمة اللاحقين وصلهم الخبر بالإلهام الإلهي؟ أو الملائكة أوصلوا هذا المشهد المليء بالإيثار والتضحية؟! أو بطرية أخرى؟! وعلى أي حال وأيا كان من أوصل الخبر، فقد سجل لأتباع الحق وعلى جبين التاريخ وللأبد طريق التضحية والفداء.[33]
كلمة أخيرة
يجب علينا الحذر من التحول إلى تجار دين، ولا نبيعه بأي ثمن، وفي هذا المجال علينا الاقتداء بمن لا يبيع دينه أبدا، فعلينا الاقتداء بالحسين بن علي(عليه السلام) الذي ضحى بروحه وأرواح أصحابه وأهل بيته ولم يضح بدينه، وكان مستعدا لوقوع نساءه وأطفاله في الأسر ولكن لا يفرّط بعقيدته[34]، وعلينا أن نقتدي بأخيه أبي الفضل العباس عليه السلام حيث أنه حينما جاءه الشمر بن ذي الجوشن برسالة الأمان ليبيع دينه بدنياه، رفض ذلك بحزم مدافعا عن عقيدته ودينه.[35]
وعليه فإن تبلور الرموز الكبيرة المدافعة عن الدين، واتباع الولاية والوفاء الشديد تجاه الإمام الحسين عليه السلام في واقعة كربلاء يؤدي إلى يطلق الإمام الحسين عليه السلام عبارته الشهيرة بعد استشهاد أبي الفضل العباس عليه السلام قائلا: "الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي".[36]؛ وكذلك الإمام زين العابدين عليه السلام حين دفنه عمه قال باكيا: «عَلَى الدُّنْيا بَعْدَكَ الْعَفا يا قَمَرَ بَني هاشِمٍ وعَلَيْكَ مِنّي السَّلامُ مِنْ شَهيدٍ مُحْتَسَبٍ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ».[37]،[38]، وهذه العبارة تكشف للجميع قيمة إيثار وفداء أبي الفضل العباس عليه السلام وقمّة عظمته وعزته ومعرفته.
إعداد ودراسة شعبة الأخبار في المكتب الإعلامي التابع لسماحته (دام ظله) Makarem.ir
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] القَسَم في القرآن؛ ص371.
[2] عاشوراء الجذور، والدوافع، والأحداث، والنتائج؛ ص454.
[3] نفس المصدر؛ ص390.
[4] شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد، ج 3، ص 249.
[5] عاشوراء الجذور، والدوافع، والأحداث، والنتائج؛ ص32.
[6] المصدر نفسه.
[7] إرشاد الشيخ المفيد، ص 440.
[8] عاشوراء الجذور، والدوافع، والأحداث، والنتائج؛ ص32.
[9] نفس المصدر؛ ص447.
[10] نفس المصدر؛ ص: 448.
[11] مقتل الحسين للمقرّم، ص 209.
[12] عاشوراء الجذور، والدوافع، والأحداث، والنتائج؛ ص448.
[13] نفس المصدر؛ ص33.
[14] نفس المصدر.
[15] نفس المصدر؛ ص: 449.
[16] نفس المصدر؛ ص396.
[17] نفس المصدر.
[18] نفس المصدر.
[19] نفس المصدر؛ ص: 404.
[20] نفس المصدر.
[21] نفس المصدر.
[22] نفس المصدر؛ ص493.
[23] نفس المصدر.
[24] نفس المصدر.
[25] نفس المصدر.
[26] نفس المصدر.
[27] نفس المصدر.
[28] نفس المصدر؛ ص: 494.
[29] نفس المصدر؛ ص489.
[30] أعيان الشيعة، ج 1، ص 608 وراجع أيضا: مناقب ابن شهر آشوب، ج 4، ص 117 وبحار الأنوار، ج 45، ص 40.
[31] عاشوراء الجذور، والدوافع، والأحداث، والنتائج؛ ص: 494.
[32] نفس المصدر؛ ص495.
[33] نفس المصدر؛ ص496.
[34] الأخلاق الإسلامية في نهج البلاغة(خطبة المتقين) ؛ ج2 ؛ ص395.
[35] المصدر نفسه.
[36] عاشوراء الجذور، والدوافع، والأحداث، والنتائج؛ ص495.
[37] مقتل الحسين للمقرّم، ص 320 وإرشاد الشيخ المفيد، ص 471.
[38] عاشوراء الجذور، والدوافع، والأحداث، والنتائج؛ ص552.