من العجائب في هذا العصر أنّ بعض الصفات الروحية للإنسان من قبيل المثابرة والإرادة والدقّة والتحمل وأمثال ذلك أخذت تحسب وتقاس بالعقارب وبعض الوسائل والأدوات بحيث اكتسب كل شيء طابعاً حسياً لنفسه، لكن مع ذلك ليس للحس بمفرده ودون سلطة العقل والموازين الفكرية أن يحل أيّ مشكلة.
الواقع هو أنّ المدرسة الحسّية قد انهارت وتآكلت من الداخل والأشخاص الذين اكتفوا بالحس في مطالعاتهم سوف لن يتمكنوا قط من حل وكشف الأسرار العظمى للوجود.
ونضيف إلى ذلك:
إنّ هؤلاء الأفراد كالجنين الذي ينمو في بطن أمه ويفترض أن يتمتع بعقل وشعور كافٍ، فمن المسلم به أنّه يرى نفسه الموجود الحي الوحيد لعالم الوجود، والخارطة التي يتصورها لعالم الوجود يكون مافوق رأسه شمالها وتحت قدمه جنوبها وطرفه الأيمن والأيسر شرقها وغربها، وقلبه سيكون بالطبع مركز هذا العالم.
أو كدودة القز التي تقبع داخل شرنقتها وتتصور أنّ العالم عبارة عن مجموعة خيوط حرير تحيط بها وهي قابعة في مركز العالم!!
والطريف أنّ خطأ الحواس على درجة من الكثرة بحيث دعت طائفة من الفلاسفة إلى انكار وجود المحسوسات بصورة كلية، والاعتقاد بأنّ ما نراه بحواسنا في عالم اليقظة كالصور والمناظر التي نراها في الأحلام الجميلة أو الرؤيا المخيفة فهي خيالية جوفاء لا حقيقة لها. وهذه هي «المدرسة المثالية» التي تشتهر بكثرة أتباعها من بين الفلسفات القديمة والجديدة، فهيترى عالم الوجود مركباً من الأفكار والتصورات فقط، صحيح أنّ الخيالات والمشاجرات العابثة أو الفلسفة الوهمية والمضحكة أحياناً شجعت بعض الفلاسفة القدماء من أنصار مدرسة الاصالة الحسية لانكار كل ما وراء الحس، إلّا أنّ هذا الانكار هو غير منطقي بنفس الدرجة التي بلغتها المدرسة المثالية التي خلصت من أخطاء الحواس إلى نتيجة غير معقولة مفادها إنكار الموجودات الحسية بصورة كلية، فكلاهما قد أخطأ في حساباته.
العالم الحسي في اتساع دائم
لا بأس أن نسلط الضوء الآن على هذا الموضوع وهو إننا حين نتحدث عن الحس والموجودات الحسية فإننا لا نشير إلى حقيقة ثابتة ومشخصة، بل إلى واقع مختزن في هذه الكلمة في حالة تغيير واتساع تتناسب والتطور والتقدم الذي يطرأ على أدوات ووسائل المطالعات الحسية.
لقد كان عالم المحسوسات ذات يوم يقتصر على بضعة آلاف من الكواكب التي كنا نشاهدها بأعيننا في أنحاء السماء، كما كان يحتمل أن تكون أصغر وحداتها هي هذه الذرات المعلقة من الغبار، أمّا اليوم فقد مكنتنا أدوات ووسائل الأبحاث العلمية من مشاهدة آلاف الملايين من الكواكب في السماء وملايين الوحدات الصغيرة المعلقة في مركز تلك الذرة من الغبار، فهل العالم المحسوس اليوم هو ذات العالم المحسوس بالأمس؟
يمكن تشبيه الوضع في الماضي والحاضر بذلك الزنبور الذي ولج أعماق غابة مترامية الأطراف وهي تضم مئات الملايين من الأشجار الضخمة وقد حط على غصن شجرة ليرى بعينه الضعيفة بضعة أغصان وأوراق أحاطت به من كل عالم الوجود، والوحدة الصغيرة له هي الورقة الصغيرة للشجرة والوحدة الكبيرة هي عدّة غصون حوله، فلو كان لهذه الحشرة مكبرة ومكريسكوب لترى من جانب جميع أرجاء الغاية الواسعة، ومن جانب آخر ترى آلاف الخلايا والألياف الحيّة في الورقة الصغيرة الواحدة، فهل عالم الوجود واحد في الحالتين بالنسبة لهذه الحشرة؟
من أين سندري أنّ العالم سيشهد في المستقبل مثل هذه القفزات بحيث تكون مقارنته بما عليه اليوم أعظم من مقارنته عمّا كان عليه بالأمس، فهل هناك احتمال ينفي ذلك؟
وعلى هذا الأساس أفلا يبدو الاعتماد على المحسوسات - وبالمقدار المحدود الذي نعيشه ـ من الناحية العملية ضرباً من ضيق الأفق وبعيداً عن المنطق؟
دور العقل في تسديد الحس
قلنا: إنّه لدينا اليوم مختبرات في علم النفس تضم سلسلة من الوسائل والأدوات المادية لقياس صفات الإنسان وروحياته، فبعض الصفات من قبيل الدماثة والتحمل وسرعة الانتقال والدقة و... كل ذلك يقاس بالعقارب والصفحات ذات الاشارات على غرار سرعة سير السيارة التي تحسب بواسطة مقياس السرعة.
ولعل الكلام عن وجود مثل هذه المختبرات يبدو غريبآ لمن لم يرها لأنّ روح الانسان ليست كالدم ليقاس ضغطه.
لكنّي ككثير من الناس رأيت ذلك في بعض المختبرات المجهزة، مثلا إذا اُريد امتحان المثابرة والتحمل لدى شخص، فهناك جهاز له زون معين (لا ثقيل ولا خفيف) ينبغي أن يمسكه الشخص المطلوب اختباره ويرفع يديه بصورة منتظمة جانبي جسمه لتشكل خطاً أفقياً مع كتفيه، كما يربط شريطاً خاصاً بيده يكون موصولا بسلك الكتروني، ففي كل مرّة يرفع يده يسجل الجهاز درجة، إلى جانب ذلك فإن رفع اليد للحد المطلوب له علامة واضحة في الجهاز.
طبعاً يتلقى الشخص أوامر منتظمة بحركة يديه دون أن يقال له لأي اختبار يخضع، وطبيعي أنّ الأفراد الذين لا يملكون التجلد والمثابرة إنّما يسأمون سريعاً من هذا العمل الرتيب والذي يبدو لا طائل من ورائه فلا يرفعون أيديهم إلى الموضع المطلوب بعد تحريكها مرتين أو ثلاثاً، فتشير العقارب إلى التفاصيل على الشاشة الخاصة حيث تعكس عدم التحمل الطبيعي لهذا الشخص، وبالعكس فإنّ الفرد المثابر والمتحمل يرفع يديه على الدوام وبصورة منتظمة إلى المستوى المطلوب فتتضح درجة تحمله ليعلم مثلا أن هذا الفرد يصلح للأعمال الرتيبة والمتعبة التي تتطلب تحملا كبيراً.
وهكذا توجد أجهزة أخرى تختبر الدقّة وسرعة الإيعازات السمعية والبصرية، والاستعداد للقيام بأعمال معينة ومدى الحب والرغبة بالعمل وما إلى ذلك.
من جانبي لما رأيت هذه الأجهزة فكرت مع نفسي أنّ جميع الأشياء في عصرنا الراهن قد اتخذت صبغة حسية، ولعله يأتي اليوم الذي يقاس فيه مدى نفرتنا من الشخص الفلاني أو الشيء الفلاني ومقدار الكبر والحسد والبغض لدى هذا وذاك، بنفس الدقّة التي يسجل فيها المحرار درجات الحرارة.
ولعل الأعم الأغلب سمع عن جهاز معرفة الكذب حيث تشير عقاربه على الشاشة الخاصة لصدق كلام الإنسان من كذبه، والجهاز المذكور ليس من قبيل الأجهزة السحرية والمشبوهة المعقدة كما يظن البعض ذلك، وأساسه هو تأثير الصدق والكذب في الإيعازات العصبية ومن ثم في الدورة الدموية وضغط الدم ونبض القلب.
لكن ورغم كل ذلك فهناك حقيقة لايمكن انكارها، وهي عدم جدوى الحس مالم يخضع لسلطة العقل؛ حيث يمكن الإشارة إلى فلسفة هذه السلطة على صعيد (الإصلاح والتجريد والتعميم والعلية والتقنين) وإليك تفصيل كل واحد منها :
أمّا «الإصلاح» فكما قلنا إنّ حواسنا ترتكب مئات الأخطاء، ولدينا عدّة أبحاث في كتب علوم النفس بشأن أخطاء الحواس، وهنا نتساءل: من هذا الذي يقف ويرصد أخطاء الحس؟
لا شك إنّه سلطة العقل والنتائج التي يحصل عليها من خلال مقارنة الحوادث، مثلا يحكم العقل والمنطق باستحالة اجتماع الضدين في آن واحد ومحل واحد، وعليه فالماء لا يمكن أن يكون في لحظة واحدة حاراً وبارداً.
فإن كانت يدنا اليمنى سابقآ في ماء حار واليسرى في ماء بارد، وغمرناهما في ماء شبه حار فإن أخبرتنا اليد اليمنى ببرودته واليسرى بحرارته فهما كاذبتان، لأنّ الماء الواحد يستحيل أن يتصف بحالتين متضادتين في آن واحد، ويعزى هذا الخطأ إلى حاستنا اللامسة التي تأثرت بالحالة السابقة، وهنا يتضح دور العقل والذهن في إصلاح أخطاء الحواس.
وأمّا بشأن «التجريد والتعميم والتقنين» فدور العقل أوضح.
فقد تقذف زجاجة نافذة باب غرفتنا بحجر فتكسر، فهذه حادثة حين يراها الإنسان لأول مرّة في حياته لا يمكنه أن يقف على قانون كلي وأساسي لهذه الحادثة، فلعل كسر الزجاجة كان بسبب ذات الزجاجة أو ذلك الحجر أو ذلك المكان أو تلك اللحظة وما إلى ذلك.
مرّة أخرى يقذف حجر آخر على زجاجة في مكان وزمان آخر فتكسر، فالحسّ من جانبه وكالمرة الأولى يدرك الحادثة، حيث نسمع بأذننا صوت تكسر الزجاجة، ونرى بعيننا تساقط قطعاتها على الأرض، أمّا من حيث الحس فإنّ أي منهما ليس بقانون، بل حادثتان، (وعدّة حوادث مشابهة أخرى) مع بعضهما ويخضعهما للتحليل.
بادئ ذي بدء يحذف قيود الزمان والمكان وجنس الزجاجة ومقدار الحجر و... ثم يعمم بالتجريد هذه الحادثة على سائر الموارد، وبعد القيام بهذه المطالعات يخلص إلى قانون فيقول «الحجر يكسر الزجاجة».
فهذا قانون عقلي حاصل من عدّة نتائج وأفعال رتبه الذهن على أساس الحوادث الحسية، ففي هذا القانون «حجر وزجاج وكسر» معنى واسع شامل ينسحب على عدّة موارد لم يرها الإنسان قط، ويمكن لكل فرد في ظلّه أن يتكهن بالحوادث المشابهة لهذه الحادثة في حياته.
فالبحث الذي أوردناه بشأن هذا المثال البسيط يصدق على أهم وأدّق الاختبارات العلمية، يعني لولا تدخل سلطة العقل سوف لن يكون هناك أي قانون علمي (عليك بالدقّة).
النقطة الأخرى التي تواجه انكار أتباع مدرسة (الأفكار ما وراء الحس) هي أنّ أوثق العلوم اليوم هي العلوم الرياضية، فالنتائج المتحصلة من القضايا الرياضية المعقدة ومختلف المعادلات هي أوثق حتى من المسائل الحسية، ولولا اسعاف الرياضيات للعلوم التجريبية لما استطاع الإنسان قط شق طريقه إلى الفضاء ولا تمكن من النزول على سطح القمر.
فلا بدّ أن تعد العقول الالكترونية وعلماء الرياضيات مسبقاً كافّة الحسابات اللازمة لهذا العمل وتوفر جميع الإمكانات الضرورية له. وبالرغم من كل ذلك فإنّ المسائل الرياضية هي مسائل ذهنية حسيّة، وهي تدور حول مجموعة من المخلوقات الذهنية التي يصطلح عليها بالعدد وما شابه ذلك. وعلى هذا الأساس فكيف نقتصر على مرحلة الحس ونلغيما ورائه؟
تمكنا لحد الآن من تمهيد السبيل أمام المطالعة في حقائق الوجود وإن كانت خارجة عن دائرة الحس المحدودة والصغيرة، وقد تسلمنا جواز السفر نحو العالم ما وراء الحس، ومن هنا نؤكد لأولئك الذين يخشون مطالعة ما وراء المحسوسات، أن لا سبيل أمامهم سوى سلوك هذا الطريق.