رغم أنّ الحديث مورد البحث، هو حديث معروف، ولعلكم سمعتم به أو قرأتموه مرّات عدّة، ولكن مع الالتفات إلى وجود نقاط مهمّة فيه، نرى من الجدير أن نسلط الضوء عليه في هذه الجلسة.
يقول الإمام الصادق(ع) :
إنّ رسول الله(ص) صلّى بالنّاس صبح، فنظر إلى شابّ في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه، مصفرّاً لونه، قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه، فقال له رسول الله(ص): «كَيفَ أَصبَحتَ يا فُلان؟» قال: أصبحت يا رسول الله موقناً، فتعجب رسول الله(ص) من قوله وقال: «إِنّ لِكُلَّ يَقِينٍ حَقيقَة فَما حَقيقَةُ يَقِينِك؟»، فقال: يقيني يا رسول الله! هو الذي أحزنني ـ غمّ المصير ـ غمّ حسن العاقبة ـ وغمّ الحساب ويوم الجزاء ـ وأسهر ليلي وأظمأ هو أجري فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتّى كأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد نصب للحساب وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة ينتعّمون في الجنّة ويتعارفون وعلى الأرائك متّكئون وكأنّي أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذّبون مصطرخون وكأنّي الآن أسمع زفير النار، يدور في مسامعي.
فقال رسول الله(ص) لأصحابه :
«هذا عَبْدٌ نَوَّرَ اللّهُ قَلْبَهُ بِالاْيمانِ؛ ثُمَّ قالَ لَهُ: اَلْزِمْ ما أَنْتَ عَلَيْهِ، فَقالَ الشّابُّ: ادْعُ اللّهَ لِي يا رَسُولَ اللّهِ أَنْ اُرْزَقَ الشَّهادَةُ مَعَك، فَدَعا لَهُ رَسُولُ اللّهِ(ص) فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ فِي بَعْضِ غَزَواتِ النَّبِيِّ(ص) فَاسْتُشْهِدَ بَعْدَ تِسْعَةِ نَفَرٍ وَكانَ هُوَ الْعاشِرُ»[1] .
إنّ مسألة حسن العاقبة وأن تختم حياة الإنسان بخير وعافية هو ما طلبه هذا الشاب، الذي وصل إلى مرتبة اليقين، من رسول الله(ص)، وهذه أهم مشكلة يواجهها الإنسان في حياته، لأنّه قد يتّفق أن يسير طوال عمره في طريق الحقّ والصلاح، ولكن في نهاية المطاف يتمكّن الشيطان من إغوائه وخداعه ويقع أخيراً في مصيده الشيطان وينحرف عن الصراط المستقيم وتكون عاقبته سيّئة، والتاريخ يعرض لنا عدداً غير قليل من هذه النماذج التي انحرفت في نهاية المطاف ووقعت في حبال الشيطان.
ألم يكن الأشخاص الذين تسبّبوا في اشعال نيران حرب الجمل، والتي قتل فيها حوالي عشرين ألفاً من المسلمين من أصحاب رسول الله(ص)؟
أضف إلى ذلك أنّ هذا الشاب المؤمن أدرك بأنّه وصل إلى مرتبة عالية من الكمال والمعنوي ومن سلوك طريق الإيمان والتقوى، بحيث إنّه طلب من رسول الله(ص) أمراً مهمّاً جدّاً، وهو أن يسأل الله تبارك وتعالى بأن يحفظه في مقامه ويختم له بالخير وتكون عاقبته الشهادة في سبيل الله «ادْعُ اللّهَ لِي يا رَسُولَ اللّهِ أَنْ اُرْزَقَ الشَّهادَةُ مَعَك».
ونحن نستطيع أن نسلك في هذا الطريق بشرط أن نسحق على أهوائنا ونوازعنا النفسانيّة وندع الله تبارك وتعالى باخلاص أن يثبتنا على هذا الطريق، ونسعى لتهذيب أنفسنا من قيود الدنيا وسلاسل الأهواء والميول الدنيويّة، أجل، فمع اخلاص النية ومجاهدة النفس وترك التعلّق بالدنيا نستطيع أن نفعل شيئاً يثير تعجبّ النبي الأكرم(ص)، ويستفاد من الرواية الثالثة في هذا الباب (حقيقة الإيمان و اليقين) أنّ اسم هذا الشاب هو حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري[2] .
[1] . أصول الكافي، ج 2، ص 53، باب حقيقة الإيمان و اليقين، ح 2.
[2] . طبقآ لرواية أبيبصير، فإنّ حارثة بن مالک قد استشهد في معركة مؤته مع جعفر بن أبيطالب، وكان الشهيدالعاشر في هذه المعركة، وقد اشترک هذا الشاب في معركة بدر وأحد والحروب الأخرى مع رسول الله 9 وقدرأى جبرئيل مرّتين على هيئة رجل يدعى دحية الكلبي. (اُنظر: مرآت العقول، ج 7، ص 336 و 337).
