كنز الأيتام!

كنز الأيتام!


ألم يضمن الله تبارك وتعالى بعد ولادتك الغذاء والرزق السليم من لبن اُمّك؟ وهكذا سيضمن رزقك في المستقبل أيضاً، لماذا القلق والخوف من عدم استمرار الرزق في المستقبل؟‌

روى عليّ بن اسباط، وهو أحد أصحاب الإمام الرضا(ع) :

«سَمِعْتُ أَبَاالْحَسَنِالرِّضا(ع) يَقُولُ: كانَ فِي الْكَنْزِ الَّذِي قالَ اللّهُ عَزَّوَجَلَّ: (وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا)[1]  كانَ فيهِ:

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمانِ الرَّحيمِ عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ؟

وَعَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بَالقَدَرِ كَيْفَ يَحْزَنُ؟

وَعَجِبْتُ لِمَنْ رَأى الدُّنْيا وَتَقَلُّبَها بِأَهْلِها كَيْفَ يَرْكَنُ اِلَيْها»ا[2] .

 

إنّ الله تبارك وتعالى يحكي في سورة الكهف قصّة النبيّ موسى والخضر بشكل مفصّل، فعندما توجّها في سفرهم إلى مدينة انطاكيا ووصلا إلى هذه المدينة وطلبا من الأهالي طعاماً، فلم يستجب لهما أحد منهم، فاستمرا في طريقهما حتّى وصلا في هذه المدينة إلى دار يكاد جدارها أن ينقض ويسقط، فقال الخضر(ع) للنبيّ موسى(ع) ساعدني لاصلاح وترميم هذا الجدار، فردّ عليه النبيّ موسى(ع) بحالة من الغضب والحدة، فقال: «إنّ هؤلاء لناس لم يعطونا قليلاً من الطعام فلماذا نصلح لهم هذا الجدار بالمجان؟» فقال الخضر(ع) في تبرير هذا العمل: «إنّ هذا الجدار يتعلّق بيتيمين في هذه المدينة وكان أبوهما صالحاً ومؤمناً، وقد أخفى في هذا الجدار كنزاً لهم، ولذلك أمرنا الله تبارك وتعالى بترميم وإصلاح هذا الجدار لكي يبقى الكنز محفوظاً لهذين اليتيمين ويستطيعان الاستفادة منه في المستقبل».

 

وهذه الآية الشريفة والرواية مورد البحث تتضمّنان رسالتين مهمّتين:

1. إننا في مجال التعامل مع اليتامى لا ينبغي أن نفكر فقط في المنافع الآنيّة والمصالح الفعليّة، بل ينبغي أن نفكر بحاجة هؤلاء اليتامى في المستقبل من قبيل الزواج والتحصيل العلمي والاشتغال والكسب وأمثال ذلك، ونسعى بالتالي لتحقيق هذه الغاية مهما أمكن.

2. إننا لا ينبغي أن نهتمّ بالمال والثروة فيما نتركه كميراث لأبنائنا وأولادنا، بل ينبغي أن نفكر في الأمور الأخلاقيّة والمعنويّة أيضاً.

 

ماذا كان هذا الكنز؟

بالنسبة إلى الكنز الذي أخفاه ذلك الأب الشيخ الصالح تحت الجدار لأبنائه ماذا كان؟ لم يذكر القرآن الكريم شيئآ عن محتوى هذا الكنز، ولكن يستفاد من الروايات المذكورة لم يكن ذا قيمة مادّية فقط، بل له قيمة معنويّة أيضاً، فمضافاً إلى القيمة الماديّة وما يحتوي هذا الكنز من مال وثروة فإنّه يحتوي أيضاً على توصيات أخلاقيّة[3] .

 

وينقل الإمام الرضا(ع) في هذه الرواية الشريفة كلاماً بعنوان الحديث القدسي، وفيه يتحدّث عن الجانب المعنوي لهذا الكنز ويبيّنه في ثلاث جمل موجزة وقصيرة ولكنّها غنيّة وثمينة جدّاً وهي عبارة عن:

 

1. الموت والوجود!

نقرأ في العبارة الاُولى قوله: «عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ؟»، فكيف يعيش مثل هذا الإنسان الذي يعلم بأنّه سيموت عاجلاً أم آجلاً حالات الفرح والانشغال باللهو واللعب وقضاء الوقت في الملذات الرخيصة ويهدر إمكاناته وطاقاته في تحصيل المطامع الدنيويّة والشهوات البدنيّة؟

وهذا يعني أنّ هاتين الحالتين لا يمكن الجمع بينهما، فلو كان الإنسان على يقين من الموت فسوف لا يلوّث نفسه أبداً بالذنب والمعصية، وإذا ارتكب الذنوب وسقط في أوحال المعاصي والشهوات فهذا يعني أنّه لا يملك اليقين.

ويرى الإمام عليّ(ع) أنّ الناس لا يحتاجون كثيراً إلى مواعظ متعددة بل تكفي موعظة واحدة ليسير الإنسان في خطّ الصلاح ويبتعد عن التورط بالذنوب والعاصي، ويقول:

«فَكَفى واعِظاً بِمَوْتى عايَنْتُمُوهُمْ»[4] .

فعندما يرى الإنسان باُمّ عينه أنّ هذا الميت كان قبل ساعة عزيزاً في اُسرته وقومه وأنّه كان محبوباً لدى أقربائه وأصدقائه، ولكن بعد موته نراهم يعجّلون بدفنه وابعاده عنهم لكي لا يتعفن بدنه ويتسبّب في الإضرار بهم، فقبل ساعة كانت صحيفة أعماله مفتوحة ويستطيع أن يستفيد من أعماله الصالحة وطاعاته ويتمكن من تطهير نفسه وغسل قلبه من الذنوب بماء التوبة والاستغفار وبذلك يخفف من ثقل أوزاره ويعمل على تصفية صحيفة أعماله، ولكنه بعد الموت لا يجد إلى ذلك سبيل وتوصد صحيفة أعماله، ألا يعدّ الموت أفضل واعظ للإنسان في واقع الحياة؟

 

2. الايمان بقدرة الله والقلق من المستقبل!

العبارة الثانية للإمام الرضا(ع) في هذا الحديث الشريف وما ورد في الكنز الخفي: «وَعَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بَالقَدَرِ كَيْفَ يَحْزَنُ؟»، فالشخص الذي يعلم يقيناً بقدرة الله تعالى وتقديره لعباده كيف يستولي عليه الحزن والقلق من المستقبل؟

أليس أنّ الله تعالى قد ضمن له الرزق وهو في بطن اُمّه، يعيش أقصى حالات الضعف والعجز؟ ألم يضمن الله تبارك وتعالى بعد ولادتك الغذاء والرزق السليم من لبن اُمّك؟ وهكذا سيضمن رزقك في المستقبل أيضاً، لماذا القلق والخوف من عدم استمرار الرزق في المستقبل؟

 

3. عدم اعتبار الدنيا والاعتماد عليها!

ونقرأ في العبارة الثالثة في هذا الحديث القدسي قوله(ع) :

«وَعَجِبْتُ لِمَنْ رَأى الدُّنْيا وَتَقَلُّبَها بِأَهْلِها كَيْفَ يَرْكَنُ اِلَيْها؟».

ينبغي أن نمرّ على قبور الموتى ومراقد الشهداء والأشخاص الذين كانوا معنا في يوم من الأيّام ورحلوا عنّا ونتوجّه إلى طاق كسرى وأطلال قصور الملوك في تخت جمشيد وأهرام مصر وكيف بنيت هذه العمارات والقصور الشاهقة وكيف عاش هؤلاء الملوك في أكنافها ولكنّهم الآن لا يوجد أثر لهم، وقد استخدم الفراعنة في بناء أهرام مصر الآلاف المؤلفة من العبيد وجاءوا بالصخور الكبيرة من مسافة ألف كليومتر إلى هذا المكان واستغرقت مدّة البناء سنوات مديدة، ولكن الفراعنة ذهبوا وبقيت أهرام مصر، إنا نرى الشيوخ والمسنين اليوم وبسبب حالة الضعف والعجز ربّما لا يستطيعون حفظ لعابهم من السيلان على لحيتهم، وكان حالهم في السنوات الماضية مثل حالنا وحالكم أنتم الشباب، فكانوا يعيشون بنشاط وحبور، ولكن مرور الزمان وتداول الأيّام صنع بهم ذلك، وهذا المصير يترصدنا جميعاً وسوف نصل إلى هذه المرحلة من العمر ونفقد ما نملكه الآن من قوّة وقدرة.

 

بقية الرواية

ونفرأ في سياق هذا الحديث: «وَيَنبَغِي لِمَنْ عَقَلَ عَنِ اللهِ أَنْ لا يَتَّهِمَ اللهَ فِي قَضائِهِ وَلا يَستَبطِئَهُ فِي رِزْقِهِ، فَقُلتُ: جُعِلتُ فِداك أُرِيدُ أَنْ أَكتُبَهُ، قَالَ: فَضَرَبَ وَاللهِ يَدَهُ إِلى الدَّواةِ لِيَضَعَها بَينَ يَدِي، فَتَناوَلْتُ يَدَهُ، فَقَبّلتُها وَأَخَذْتُ الدَّواةَ فَكَتَبتُهُ».

ويتبيّن من هذه الرواية أنّ كتابة الأحاديث كان متداولاً في ذلك العصر وأنّ الأحاديث والروايات والأدعية المطولة التي وصلت إلينا في تراثنا الإسلامي، كانت مدونة من قبل الرواة ليتمكنوا من نقلها إلى الآخرين.

 

[1] . سورة الكهف، الآية 82.

[2] . أصول الكافي، ج 2، ص 59، باب فضلاليقين، ح 9.

[3] . ولمزيد من الاطلاع أنظر: التفسير الأمثل، ذيل الآية 79 من سورة الكهف.

[4] . نهج البلاغة، الخطبة 188.

captcha