اليقين.. خصائصه وطرق تحصيله

اليقين.. خصائصه وطرق تحصيله


الكثير من الأشخاص الذين يقومون بأعمال صالحة بشكل مفرط ويضغطون على أنفسهم للقيام بهذه الأعمال فإنّهم بعد فترة يجدون الملل في أنفسهم وربّما يتركون هذه الأعمال كليّاً‌

روى هشام بن سالم، وطبقاً لرواية معتبرة:

«سَمَعْتُ أَبا عَبْدِاللّهِ(ع) يَقُولُ: إِنَّ الْعَمَلَ الدّايِمَ الْقَليلَ عَلَى الْيَقينِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللّهِ مِنَ الْعَمَلِ الْكَثيرِ عَلى غَيْرِ يَقينٍ»[1] .

 

خصائص اليقين

إنّ السبب الذي دعا الإمام(ع) إلى جعل اليقين شرطاً للعمل في هذا الحديث أنّ الأعمال التي تصدر عن حالة اليقين ستكون خالصة من الشوائب ونقية من تداعيات وافرازات النفس والدنيا، إنّ حالة اليقين الواردة في الروايات الشريفة، تعود في الحقيقة إلى اليقين بأصلين أساسيين من أصول العقيدة، وهما اليقين بالمبدأ والمعاد، وهذا هو اليقين الذي كان النبيّ إبراهيم(ع) قلقاً من عدم تحصيله، وقد أشار الباري تعالى إلى هذا الهاجس الذي كان يعيشه النبيّ إبراهيم(ع) من كلا الجهتين، يقول تعالى في سورة الأنعام بالنسبة للهاجس والقلق الذي كان يعيشه النبيّ إبراهيم(ع) فيما يتّصل بالمبدأ: (وَكَذَلِك نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ وَالاَْرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)[2] ، أي سنري إبراهيم واقع الحاكميّة الإلهيّة والسلطة المطلقة للباري تعالى على جميع الموجودات ليكون على يقين راسخ من هذه العقيدة (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ).

إنّ النبيّ إبراهيم(ع) كان يملك اليقين بالمبدأ، ولكن الله تبارك وتعالى بلطفه وكرمه وهب لإبراهيم(ع) المرتبة العالية من اليقين بحيث شاهد ملكوت السماوات والأرض وعاش هذه الحالة المعنوية العالية من مراتب الإيمان، أمّا هاجس النبيّ إبراهيم(ع) فيما يتعلّق باليقين بأمر المعاد، فنقرأ في سورة البقرة أنّ النبيّ إبراهيم(ع) توجّه إلى الله تعالى ودعا بهذا الدعاء :

(رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى)[3] ، ونرى في هذه الآية الشريفة أنّ إبراهيم(ع) قال: «بلى»، أي أنني اُومن بالمعاد، ولكنني اُريد تحصيل السكينة القلبيّة والاطمئنان النفسي بذلك.

إنّ الاعتقاد بالمعاد الجسماني مشكل لعامّة الناس، ومن هذه الجهة نرى النبيّ إبراهيم(ع) طلب من الباري تعالى أن يصوّر ويجسد له هذه العقيدة بالمعاد بحيث إنّها تسبّب له الاطمئنان القلبي ويصل إلى مرتبة اليقين، وهذا اليقين الكامل بالمبدأ والمعاد هو الذي حوّل إبراهيم(ع) إلى بطل تحطيم الأوثان في التاريخ البشري، ورافع لواء التوحيد في مسيرة الإنسانيّة وأزال عن قلبه أي خشية وخوف من أي شيء في سبيل تحقيق غاياته السامية وأهدافه المقدّسة.

 

طرق تحصيل اليقين

يمكن تحصيل اليقين من طريقين :

1. الأدلّة النظريّة؛ فلو أنّ الإنسان تفكّر في مورد المبدأ والمعاد واهتم بدراسة أدلّة المعتقدين بوجود الله واليوم الآخر وأدلّة المنكر أيضاً فسوف يحصل على اليقين من هذا الطريق.

 

2. الكشف والشهود؛ أحياناً تحصل للإنسان حالة من الكشف والشهود، يعني أنّه يرى الحقائق الواقعة خلف ستار الغيب، وفي هذه الصورة يجد هذا الإنسان نور الشهود في قلبه وأعماق روحه ويجد الله تعالى حاضراً في قلبه، ومثل هذا الإنسان يرى بعينه ظاهرة المعاد والحياة وبعد الموت ويشعر بها في قلبه، كما ورد في رواية ذلك الشاب الذي لفت نظر النبيّ الأكرم(ص) في صلاة الصبح وادّعا أنّه يسمع صوت أهل النار كما تقدّم ذلك في الحديث الثاني من هذا الكتاب، أو ما أشار إليه الإمام عليّ(ع) في خطبة همام، حيث قال:

«وَإِذا مَرُّوا بِآَيةٍ فيها تَخْويفٌ أَصْغَوْا إِلَيها مَسامِعَ قُلُوبِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهيقَها فِي أُصُولِ آذانِهِمْ»[4] ، فهؤلاء يسمعون أصوات أهل النار وهم يتعذّبون فيها ويتصوّرون أنّها على مقربة منهم.

وهذه الأمور تحصل للإنسان أحياناً بواسطة الشهود، والطريق لتحصيل هذه الحالة من الشهود تهذيب النفس وتحصيل صفاء القلب، ونقاء السريرة وتصفية الباطن وإصلاح الأخلاق في مراتب عالية، واليقين الحاصل من الطريق الأوّل ربّما يقترن أحياناً بخيوط من الشك والشبهة والتردد في خلجات النفس، أمّا اليقين الحاصل من الشهود فلا يبقي أي أثر من الشك والتردد في نفس الإنسان، وهذا اليقين هو الذي يتسبّب في صدور الأعمال الصالحة من الإنسان وهو المصدر والمنهل الذي يترتّب عليه جميع سلوكيات الإنسان الخيرة.

ونلفت النظر هنا إلى مثالين :

المثال الأوّل : هل يوجد إنسان عاقل (بل حتى المجنون) يضع قطعة من النار أو جمرة في فمه ويتناولها كما ينتاول الطعام؟ هنا نرى أنّ القرآن الكريم يشبّه أكل مال اليتيم بهذه الحالة وأنّ هذا الشخص الذي يأكل مال اليتيم إنمّا يأكل جمرة من النار :(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمآ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارآ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرآ)[5] .

وهذا يعني أننا لو كنّا على يقين من أنّ أكل مال اليتيم حاله حال مَن يتناول جمرة من النار في فمه، فلا يعقل أن نمدّ أيدينا إلى أموال اليتامى ونقترف هذا الذنب.

المثال الثاني : أنّ أي إنسان عاقل لا يشرب من الماء الآسن والمتعفن والملوّث، فلو علمنا أنّ أكل مال الوقف، الرشوة، الربح الحاصل من التطفيف في الميزان، نصيب الميراث للاخرين وأمثال ذلك حاله حال من يشرب الماء المتعفن والملوّث، فسوف لا نمد أيدينا لهذه الأموال ونستولي عليها بطرق غير مشروعة.

وعلى ضوء ذلك وما يحقّق الضمان والوقاية للإنسان في مقابل الذنب والمعصية، هو اليقين بالمبدأ والمعاد.

 

آثار اليقين

إنّ جميع مشكلات الإنسان في واقع الحياة تنشأ من ضعف الإيمان واليقين، وعندما يحصل الإنسان على حالة اليقين في نفسه فسترحل عنه حالات الظلم وارتكاب الذنوب، كما ورد أنّ مولى المتقين أميرالمؤمنين(ع) لم يكن مستعداً لارتكاب أدنى ظلم في مقابل أعظم رشوة، ويقول: «وَاللّهِ لَوْ اُعْطيتُ الاَْقاليمَ السَّبْعَةَ بِما تَحْتَ أَفْلاكِها، عَلى أَنْ أَعْصِيَ اللّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُها جُلْبَ شَعيرَةٍ ما فَعَلْتُهُ»[6] ، هذا يعني أنّ حالة اليقين في قلب الإمام وصلت إلى المرتبة العليا بحيث أنّ الإمام(ع) يقول عن نفسه بأنّه لو اُزيحت الحجب والأستار فلا يزيدني ذلك يقينآ: «لَو كُشِفَ لِيَّ الغِطاءُ مَا ازدَدتُ يَقِينآ»[7] ، وعلى ضوء ذلك، فالعمل القليل المقترن باليقين يحظى بقيمة أكثر من العمل الكثير بدون يقين.

 

خصائص الدوام

ومن أجل الاطلاع على أهميّة هذا الشرط في الحياة الإيمانيّة نلفت النظر إلى المثال التالي: أننا ملك بستاناً فيه أنواع كثيرة من الأشجار المثمرة، وعندما نسقي هذا البستان بمياه كثيرة فإنّ ذلك سيؤدّي إلى غرق هذا الأشجار بالمياه، ولكن هذا العمل لا يدوم بل ربّما نقوم بذلك مرّات معدودة في السنة، ولكننا عندما نستخدم السقي الحديث بأسلوب التقطير بحيث يستمر هذا السقي طيلة أيّام السنة، من الواضح أنّ هذا البستان سيدوم ويستمر في الحياة والنمو والعطاء في صورة الثانية أكثر من الصورة الاُولى، أجل، هكذا الحال في العمل الدائم المستمر الذي يقوم على أساس اليقين، فمثل هذا العمل أفضل من العمل الكثير غير المستمر الناشىء من عدم اليقين.

سؤال : لماذا نرى أنّ العمل القليل المستمر الناشىء من اليقين، أفضل من العمل الكثير غير المستمر بدون يقين؟

الجواب : يمكن بيان الحكمة من ذلك بأحد الوجهين:

1. أنّ الأعمال الكثيرة التي يقوم بها الإنسان بدون الاستمداد من الاعتقاد القلبي ربّما تؤدّي إلى حالة الغرور في هذا الشأن، فإذا لم تترسخ جذور اليقين في قلب الإنسان ومع ذلك حصل على التوفيق لصلاة الليل وزيارة عاشوراء وقراءة دعاء كميل وأمثال ذلك، فإنّ هذه العبادة من شأنها أن تثير في نفسه حالات العجب والغرور وقد يصاب بالأنانيّة ويرى نفسه أفضل من الآخرين.

2. أنّ العمل الكثير بدون يقين سيؤدّي فيما بعد إلى ردّة فعل سلبيّة من النفس ويبعث على الملل والتعب من الأعمال الصالحة والعبادة ويتسبّب في تركها.

أمّا العمل القليل المستمر والمنبعث من حالة اليقين فإنّه لا يصاب بمثل هذه الآفات، بل إنّ هذا الإنسان عندما يأتي بالأعمال الصالحة والعبادة فإنّه يشكر  الله تعالى على أنّه وفقّه لمثل هذا العمل ويجد آثار هذه الأعمال ظاهرة في وجوده ويتبدلّ هذا «الفعل» إلى «عادة»، وتتبدّل العادة إلى «ملكة»، وسوف تترسخ هذه الملكة في نفسه أكثر فأكثر.

والكثير من الأشخاص الذين يقومون بأعمال صالحة بشكل مفرط ويضغطون على أنفسهم للقيام بهذه الأعمال فإنّهم بعد فترة يجدون الملل في أنفسهم وربّما يتركون هذه الأعمال كليّاً.

وقد ورد في المأثور قصّة ذلك الشخص الكافر الذي اعتنق الإسلام على يد جاره المسلم، وقام ذلك الجار المسلم باستصحابه إلى المسجد للصلاة وأخذ يعلّمه أحكام الدين وكيفيّة العبادة والصلاة إلى حدّ أنّ ذلك المسلم الجديد قال له : «اطلب هذا الدين من هو أفرغ منّي وأنا إنسان مسكين وعليِّ عيال»[8] ، وبهذه الصورة ترك الإسلام وأعرض عنه.

ونسأل الله تبارك وتعالى أن يوفّقنا لترك الإفراط والتفريط في جميع الأمور إن شاء الله.

 

[1] . أصول الكافي، ج 2، ص 57، باب فضل اليقين، ح 3.

[2] . سورة الأنعام، الآية 75.

[3] . سورة البقرة، الآية 260.

[4] . نهج البلاغة، الخطبة 193.

[5] . سورة النساء، الآية 10.

[6] . نهج البلاغة، الخطبة 224.

[7] . بحار الأنوار، ج 40، ص 153.

[8] . اُنظر: أصول الكافي، ج2، ص43، باب درجات الإيمان، ح 2.

captcha