يقول الإمام الصادق(ع):
«رَأسُ طاعَةِ اللّهِ الصَّبْرُ وَالرِّضا عَنِ اللّهِ فيما أَحَبَّ الْعَبْدُ أَوْ كَرِهَ، وَلا يَرْضى عَبْدٌ عَنِ اللّهِ فيما أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ إِلّا كانَ خَيْراً لَهُ فيما أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ»[1] .
إنّ مسألة الرضا بقضاء الله وقدره تعتبر مسألة في غاية الأهميّة، وقد ورد التأكيد عليها كثيرا في الروايات الشريفة، ونقرأ في الحديث الرابع «باب الرضا بالقضاء» في الجزء الثاني من أصول الكافي، والحديث مورد البحث مقتبس من هذا الباب، حديثا مطولاً عن النبيّ الأكرم(ص)، وفي الواقع إنّه حديث قدسي، وخلاصة ما ورد في الحديث:
«قال الله عزّ وجلّ: إِنَّ مِنْ عِبادِي المُؤمُنِينَ عِبادا لا يَصلَحُ لَهُم أَمرُ دِينِهِمْ إِلاَّ بِالغِنى وَالسِّعَةِ والصّحَةِ فِي البَدَنِ فَأَبلُوهُم بِالغنى وَالسِّعةِ وصِحَّةَ البَدنِ فَيصلَح عَليهِم أَمرَ دِينَهُم...».
وهذا يعني أنّ صلاح بعض العباد في صلاح أموالهم وثرواتهم، ولذلك أقضي لهم بالثراء والغنى ويعتبر ذلك اختبارآ لهم في هذه الحياة وهل أنّهم سيتحرّكون بهذه الإمكانات والأموال في خطّ الطاعة والعبوديّة وتحقيق رضا الله تعالى أو يتوجّهون نحو منحدر الذنوب والخطيئة ويستخدمون هذه الأموال في سبيل اشباع ملذاتهم وشهواتهم.
الطائفة الثانية من الناس يكون صلاحهم في قلّة المال والثروة ولذلك نقدّر لهم المال بمقدار حاجتهم لا أكثر، وبذلك يكون اختبارهم وامتحانهم وأن يعيشوا في حالة الفقر والحرمان، فإذا صبروا على هذه الحالة ولم يتّجهوا نحو تحصيل المال الحرام ونيل الثروه بطرق غير مشروعة وبذلك أختبر دينهم وإيمانهم.
وثمّة فئة أخرى من الناس يشتاقون كثيرا لتقديم فروض الطاعة والعبادة والعبوديّة، وهم أهل صلاة الليل وتلاوة القرآن والمناجاة والدعاء، هؤلاء أرزقهم التوفيق على سلوك طريق العبادة وتقوية العلاقة مع الله تعالى، ولكني أحيانا اسلط عليهم النوم، فلا يستطيعون اكمال صلاتهم وعبادتهم، وعندما يستيقظون من نومهم يجدون أنّ الليل قد انقضى وقد أصبح الصباح وانتهى وقت صلاة الليل والمناجاة، فيشعرون بالحزن بذلك، لأنني أرى صلاح حالهم في تسليط النوم عليهم في بعض الحالات وحرمانهم من صلاة الليل لئلا يملكهم العجب والغرور في استمرارهم على صلاة الليل والعبادة والتهجّد.
فالعبادة أمر جيد ونافع، ولكن أحيانا تكون مصلحة الإنسان في النوم لئلا ينخدع بوساوس الشيطان ويركب مركب الغرور والعجب بعبادته ويتصوّر أنّه من أهل النجاة وأنّه إنسان صالح، وبذلك يهدم ما عمله من طاعة وعبادة بهذا الغرور والعجب.
وما ورد في هذا الحديث القدسي ثلاثة أمثلة ونماذج على ما يقّدره الله تعالى للإنسان باختلاف الظروف، ومن المعلوم أنّ هذه الحالات لا تنحصر بهذه الموارد الثلاثة، فربّما يكون صلاح البعض في السلامة والصحّة ومصلحة آخر في المرض، ويكون صلاح حال بعض الأشخاص في استلامه لمنصب معيّن، بينما صلاح الآخر في عدم استلامه لأي منصب، وربّما تكون مصلحة شخص في امتلاكه لأصدقاء كثيرين وطيبيين، بينما الآخر يعيش الحرمان من الأصدقاء، المهمّ أنّ الإنسان المؤمن يجب أن يشعر بالرضا وبقضاء والله وقدره، ويكون رضاه تابعا لرضا الله سبحانه وتعالى، لأنّ العبد الحقيقي هو الشخص الذي يعيش الرضا فيما يقدّر له مولاه من أمور مادّية ومعنويّة في واقع الحياة.
كيف نرضا بقضاء الله؟
لو التفتنا إلى النقاط الثلاث التالية وآمنا بها، فسوف نشعر بحالة الرضا والتسليم لقضاء الله وقدره ونعيش الرضا بما يرضاه الله لنا:
الاُولى: أنّ الله تبارك وتعالى هو الحكيم والرحيم على الاطلاق ولا يعمل شيئا عبثيا وبدون تقدير ومحاسبة.
الثانية: أنّ الله تعالى لا يحتاج لعباده أبدا، فلو كنّا نملك ثروة كبيرة أو كنّا فقراء، ولو كنّا نعيش بسلامة وبصحّة أو كنّا مرضى، سواءً كنّا في حالة النوم أو اليقظة، أو في حالة العبادة أو عدمها و...، فأيّاً من هذه الحالات لا تؤثر على الله تعالى ولا تترك نفعاً أو ضرّاً بساحة الذات المقدّسة، فالعبادة الواجبة هي في الحقيقة دروس تربويّة لنا.
الثالثة: أنّ دائرة علمنا ومعرفتنا محدودة وما نعلمه قليل جدّاً في مقابل مجهولاتنا وبمثابة القطرة في مقابل البحر، يقول العالم المؤمن المعروف «أنشتاين»: «إنّ جميع علوم ومعارف البشر منذ بداية الخلقة ولحدّ الآن في مقابل مجهولاته بمثابة ورقة واحدة من كتاب ضخم»، وأعتقد أنّ هذا المقدار أقل من الورقة الواحدة أيضاً.
وهكذا هو حال علوم البشر ومعارفه على امتداد التاريخ، فكيف الحال بعلمي ومعرفتي كفرد من أفراد البشريّة، فهي لا تساوي شيئاً.
وإذا التفاتنا إلى هذه النقاط ثلاث وآمنا بها فسوف لا تسيطر علينا حالة الجزع والفرع في مقابل الحوادث والتحديات في واقع الحياة بل نرى أنّ هذه الحوادث والمشاكل تصبّ في صلاحنا وتقوي من إرادتنا، والتجربة أيضاً أثبتت هذه الحقيقة، فثمة حوادث تحدث في حياتنا وكنّا نستشعر الحزن والمرارة منها ولكن مع مرور الزمان ثبت لنا أنّ تلك الحادثة لو لم تقع في حياتنا لكانت حياتنا هباءً منثوراً، غاية الأمر أننا أحيانا لا ندرك الحكمة والغاية من تلك الحوادث المرّة والصعوبات الثقيلة ولكن بمرور الزمان تتبيّن الغاية منها[2] ، وربّما لا تتبيّن الحكمة من بعض الحوادث والمصائب إلى آخر العمر.
فوائد الرضا بقضاء الله
إنّ الرضا بقضاء الله تعالى له فوائد جمّة وبركات كثيرة، وهنا نشير إلى موردين منها:
1. طمأنينة الروح: يجب على الإنسان في حركة الحياة السعي وبذل الجهد للسير خط التكامل وإشباع حاجاته الماديّة والمعنويّة ويزيح عن نفسه الكسل والبطالة وطلب الراحة، ولكن أحيانا وعلى رغم من جميع ما يبذله الإنسان من جهد وتعب يتّفق أن تحدث حادثة مأساوية في حياته وينبغي على الشخص المؤمن أن لا يسلّم زمام نفسه إلى حالات الجزع واليأس وأن يستشعر الرضا بقضاء الله وقدره ولا يفقد حالة السكينة والطمأنينة، ففي العالم المادّي المعاصر نرى زيادة كبيرة في عدد المرضى النفسانيين ويتوقع العلماء أنّ هذا العالم سيتحوّل في المستقبل إلى دار مجانين كبيرة.
أمّا الأشخاص الذين يعيشون الإيمان والاستقامة في مقابل الحوادث الصعبة[3] فهم يقاومون هذه التحديات والصعوبات كالجبل الراسخ ولا يفقدون سكينتهم وهدوءهم الباطني لأنّهم يعلمون جيداً أنّ هذه الحوادث التي كتبت عليهم خير لهم وتصبّ في صلاحهم ونفعهم في نهاية المطاف.
2. حسن الظنّ بالله؛ فالشخص الذي لا يرضا بقضاء الله وقدره بسبب فقدانه لهذه النقاط الثلاث المذكورة آنفاً، فينتهي به الأمر شيئاً فشيئاً إلى سوء الظنّ بالله تعالى، ونشاهد هذا المعنى بوضوح في الرسائل التي تصلنا من الناس وأنّهم بسبب بعض الحوادث والصعوبات أو بسبب عدم قضاء حاجاتهم فإنّهم أعرضوا عن الله تبارك وتعالى وتركوا الصلاة والعبادة، فمثل هؤلاء الأشخاص يعيشون حالة سوء الظنّ بالله، أمّا الأشخاص الذين يعيشون حالة الرضا بقضاء الله وقدره فإنّهم لا يفقدون إيمانهم ولا يفقدون حسن ظنّهم وأملهم بالله تعالى عند بروز الحوادث والمصاعب، وينبغي الالتفات إلى هذه النقطة أيضاً، وهي أنّ للحوادث الدنيويّة ظاهراً وباطناً، فأحياناً يكون ظاهر الحادثة سيّئاً وليس فيه نفع لنا ولكن باطن الحادثة نافع ويصبّ في مصلحتنا، ومن هذه القبيل ما ورد في قصّة موسى والخضر، فظاهر تلك الحوادث كان يثير اعتراض النبيّ موسى(ع)، ولكن عندما كشف له الخضر(ع) عن باطن هذه الحوادث سكت وقنع.
إنّ تقوية دعائم الإيمان في أعماق النفس وعدم اليأس من رحمة الله، والتوكل على الله وتفويض الأمر إليه كلّها من ثمرات الرضا بقضاء الله وقدره، وهنا لا مجال لبسط الكلام وتفصيل البحث في هذه المسألة.
[1] . أصول الكافى، ج 2، ص 60، باب الرضا بالقضاء، ح 1.
[2] . هذا الأمر يشير إلى الآية الشريفة 216 من سورة البقرة.
[3] . إنّ الإمام عليّ بعد أن أطفأ نار الحرب في معركة النهروان، بيّن فتنة الخوارج في كلام له عن خصائصه ومميزاته في صدر الإسلام إلى جانب النبيّ الأكرم وقال في قسم من كلامه: «فَقُمْتُ بِالاْمْرِ حِينَ فَشِلُوا، وَتَطَلَّعْتُ حِينَ تَقبَّعُوا وَ نَطَقْتُ حِينَ تَعْتَعُوا، وَ مَضَيْتُ بِنُورِ آللّهِ حِينَ وَقَفُوا. وَ كُنْتُ أخْفَضَهُمْ صَوْتاً، وَأَعْلاَهُمْ فَوْتاً، فَطِرْتُ بِعِنَانِها، وَ آسْتَبْدَدْتُ بِرِهَانِها. كالْجَبَلِ لاَ تُحَرِّكُهُ آلْقَوَاصِفُ، وَ لاَ تُزِيلُهُ آلْعَواصِفُ.لَمْ يَكُنْ لاِحَدٍ فِيَّ مَهْمَزٌ وَ لاَ لِقَائِلٍ فِىَّ مَغْمَزٌ». (نهج البلاغة، الخطبة 37).