يقول الإمام الصادق(ع): «كَانَ قَنبَر غُلامُ عَليٍّ يُحِبُّ عَلِيّاً(ع) حُبّاً شَدِيداً فَإِذا خَرَجَ عَلِيٌّ صَلَواتُ اللهِ عَليهِ خَرَجَ عَلى أَثَرِهِ بِالسَّيفِ، فَرَآهُ ذَاتَ لَيلَةٍ فَقَالَ:
«يا قَنْبَرُ مالَك؟ فَقالَ: جِئْتُ لأَمْشِىَ خَلْفَك يا أَميرَ الْمُؤْمِنينَ قالَ: وَيْحَك! أَمِنْ أَهْلِ السَّماءِ تَحْرُسُني أَوْ مِنْ أَهْلِ الاَْرْضِ؟ فَقالَ: لا، بَلْ مِنْ أَهْلِ الأرْضِ، فَقالَ: إِنَّ أَهْلَ الاَْرْضِ لا يَسْتَطيعُونَ لِي شَيْئاً إِلّا بِاِذْنِ اللّهِ مِنَ السَّماءِ فَارْجِعْ، فَرَجَعَ» .
مَن هو قنبر؟
ذكروا في بيان حالات قنبر مسائل كثيرة ، ولكن خاتمة عمره كانت تتضمّن عبرة ودرساً مهمّاً، يقول المرحوم المحدّث الشيخ عباس القمي في كتابه سفينة البحار:
«إنّ الحجاج بن يوسف الثقفي قال ذات يوم: أحبّ أن أصيب رجلاً من أصحاب أبي تراب، فأتقرّب إلى الله بدمه، فقيل له: ما نعلم أحداً كان أطول صحبة لأبي تراب من قنبر مولاه، فبعث في طلبه فاُتي به فقال له: أنت قنبر، قال: نعم، قال أبو همدان؟ قال: نعم، قال: مولى عليّ بن أبي طالب؟ قال: الله مولاي، وأميرالمؤمنين عليّ(ع) ولّي نعمتي، قال: إبرأ من دينه، قال: فإذا برأت من دينه تدلّني على دين غيره أفضل منه؟ قال: إنّي قاتلك فاختر أي قتلة أحبّ إليك. قال: قد صيّرت ذلك إليك، قال: ولُمَ؟ قال: لأنّك لا تقتلني قتلة إلّا قتلتك مثلها، وقد أخبرني أميرالمؤمنين(ع) أن قتلي يكون ذبحاً ظلماً بغير حقّ، قال: فأمر به فذبح».
وليس من العجيب أن يجد الإنسان اُناساً يحملون مثل هذه النفسيّة الشرسة والروحية اللإنسانيّة ، لأنّ الإنسان عندما يتحرّك في مسالك ودروب الخطأ ويصرّ عليها، فإنّ الله تعالى يسلب العقل منه، وفي النتيجة، يتصوّر المنكر معروفآ والمعروف منكراً، وإلى هذا أشار الله تعالى في الآية 104 من سورة الكهف، وفي الحقيقة هذا نوع من العقاب الإلهي للطاغين والعاصين، وبذلك يكون كاهلهم مثقلة بالذنوب والخطايا ويشتدّ عذابهم في الآخرة.
فلم يشعر قنبر بالخوف ولم يرتجف لكلام الحجّاج ولا توسّل إليه ولا استعطفه، لأنّه يعلم أنّه يسير في طريق رضا الله تعالى وفي طريق الإيمان:
دَمُ الشُّهداءِ يَنبُتُ فِي رُبانا قَناديلاً يُضيء بِها النّصالُ
دَمُ الشُّهداءِ يا أقلامُ هذا مَداد المُبدعِينَ، وَيا خيالُ
نَموتُ لِتَزهُرَ الأجيالُ فِينا وَيَضحك فِي مَرابعِنا الجمالُ
المقام السامي ليقين مولى الإمام عليّ(ع)
وعلى أي حال، فإنّ مفهوم كلام الإمام أميرالمؤمنين(ع) لغلامه قنبر يحكي عن هذه الحقيقة، وهي أنّ الغلام وصل مرتبة من شدّة اليقين بحيث إنّه لا يخاف من أي شيء سوى الله تعالى، والأشخاص العاديين ليسوا كذلك، فهم يحتاجون في بعض الموارد إلى المحافظ ومن يقوم بأمر حمايته، وطبعاً لا يعني ذلك أنّهم يخافون حتّى من ظلمهم ويطلبون المحافظ من دون الله ويغفلون عن قدرة الله تعالى.
والمعنى الآخر لهذا الكلام، أنّه لا شيء يؤثر في عالم الوجود بدون إذن الله تعالى ومشيئته، فالسكين إنّما ينقطع اللحم ويؤثر أثره بإذن الله تعالى، فلو لم يأذن الله تعالى فإنّ أحَدَّ سكين لا تستطيع أن تقطع شيئاً، ولذلك نرى أنّ النبي إبراهيم(ع) كلّما مرّ بالسكين على رقبة ابنه إسماعيل فإنّها لم تؤثر فيه شيئاً وكأن لسان حال السكّين يقول مخاطباً النبيّ إبراهيم(ع): «الْخَليلُ يَأْمُرُني بالْقَطْعِ وَالْجَليلُ يَنْهاني» ، فلا تؤثر السكّين بدون أن يأذن الله تعالى بذلك، وهكذا النار المحرقة لا تؤثر أثرها إلّا بإذن الله تعالى، والنار تحرق بشرط أن يأذن الله تعالى لها بالاحراق، وبدون ذلك لا تستطيع إحراق أي شيء حتّى لو كانت النار بقدر البحار وحتّى لو جمعنا لها أطنان من الحطب كما ورد في قصّة إبراهيم(ع) أنّهم جمعوا له أكواماً كبيرة من الحطب وأشعلوا النار فيها بحيث إنّهم لم يستطيعوا الاقتراب منها لالقاء إبراهيم(ع) فيها واضطروا إلى استخدام المنجنق ووضعوا إبراهيم(ع) فيه وقذفوه في النار، ومع كلّ ذلك فإنّ هذه النار المهيبة لم تحرق ولا ذرة من بدن إبراهيم الخليل(ع)!
ونحن لسنا كالأشاعرة ننكر عامل الأسباب والمسبّبات، ونعتقد بأنّ الماء لا يطفيء النار، وأنّ النار لا تحرق، وأنّ السكّين لا تقطع، بل إنّ جميع هذه الأمور تحدث وتتحقّق بإذن الله تعالى ومشيئته، ونحن لا نقول بهذه العقيدة ، ولكننا نعتقد أنّ الماء يطفيء النار بإذن الله، وأنّ النار تحرق الأشياء بإذن الله، وأن السكّين تقطع بإذن الله تعالى.
اُدْخُلُوا الأبياتَ مِنْ أَبوابِها وَاطلُبُوا الأغراضَ مِنْ أَسبَابِها
فلو أننا كنّا نعتقد بمثل هذه العقيدة الصحيحة فسوف نعيش الهدوء والاستقرار النفسي في حياتنا، ونأمل أن نحصل على قبس أو شعاع من نور يقين المولى الإمام عليّ (ع) في قلبنا وروحنا لكي نحصل على ثمرات هذا اليقين وبركاته في الدنيا والآخرة.
سؤال: هل معنى هذا الحديث عدم الحاجة للمحافظة وعدم اهتمام الأشخاص بحمايتهم واتّخاذ الوسائل اللازمة لدفع الشرور عنهم، والحال نرى أنّ النبيّ الأكرم(ص) كان له حماية ومحافظون وحرس، والآن نرى أيضاً أنّ مكان النبيّ الأكرم(ص) في مسجد النبيّ معلوماً ومشخصّاً، فماذا يعني وجود محلّ للحرس والمحافظين، أو هناك معنى آخر لهذا الحديث الشريف؟
الجواب: كما ذكر المرحوم الشيخ الكليني؛، من جملة البحوث المتعلّقة باليقين، أنّ هذه الرواية تتحدّث عن بعض أولياء الله تعالى وأنّهم في ظلّ وصولهم إلى مرتبة اليقين لا يحتاجون إلى الحماية والمحافظة من قِبل الآخرين، ولو أنّهم استخدموا بعض الحراس لحمايتهم من الأخطار فإنّ الغرض من ذلك حفظ الظاهر ولايصاد أفواه بعض الناس، فالإنسان الذي وصل إلى قمّة اليقين فإنّه يشعر بالاطمئنان بهذه الحقيقة، وهي أنّ الله تعالى هو الحقّ فقط، وطبعاً الكثير من الأشخاص لم يصلوا إلى هذا المقام وهذه المرتبة من اليقين والإيمان، ولكنّ النبيّ الأكرم(ص) والإمام عليّ(ع) كانوا كذلك، وأنّ وجود الحرّاس حول النبيّ الأكرم(ص) مجرّد أمر تشريفي وشكلي فقط.
الوصول إلى اليقين
ولليقين آثار وثمرات عجيبة، وكلّما أيقن الإنسان بالله تبارك وتعالى وقدرته المطلقة على كلّ شيء وعلمه الواسع وسائر صفاته وأسماءه الأخرى، فسوف يتجلى هذا الإيمان واليقين على حياته وأعماله وتظهر له ثمار وبركات أكثر، ولغرض تحصيل اليقين هناك طريقين لذلك:
1. القراءة والتدبرّ في آثار الباري تعالى في عالم الطبيعة، ولذلك ورد في آيات القرآن الكريم دعوة للناس إلى التدبّر والتفكّر في عالم الوجود ورؤية آيات الله تعالى في مظاهر عالم الطبيعة.
2. الأعمال الصالحة؛ وكلّما إزدادت أعمال الإنسان الصالحة والخيرة فإنّ ذلك من شأنه أن يرتقي الإنسان في درجات الكمال ومعراج المعنوية فيزداد يقينه أكثر فأكثر، وكلّما ازداد يقينه حصل على الهدوء النفسي وسكينة القلب كما تقدم بيان ذلك في ذيل الحديث.