أي هذين النمطين الفكريين ينتج الاستقرار أكثر؟

أي هذين النمطين الفكريين ينتج الاستقرار أكثر؟


لِمَ يلجأ البعض إلى الإنتحار حين مواجهته لأدنى المكاره، بينما يقف البعض الآخر بكل صلابة وشموخ تجاه أصعب حوادث الحياة؟‌

لماذا يشعر البعض ممن يودع السجن حين الموت وحتى أمام المشانق بالسكينة والطمأنينة، بينما يسود القلق والاضطراب البعض الآخر ممن يعيش في القصور الفارهة ويتمتع بكافة الوسائل والإمكانات؟!

لِمَ يلجأ البعض إلى الإنتحار حين مواجهته لأدنى المكاره، بينما يقف البعض الآخر بكل صلابة وشموخ تجاه أصعب حوادث الحياة؟

ولماذا نرى البعض ممن يمارس حياته بنشاط ولذّة رغم معاناته من بعض الحرمان وافتقاره لبعض الأعضاء، بينما هنالك البعض الآخر الذي يعيش التعب والعناء دونما أي مبرر لذلك؟

ليس هنالك أكثر من إجابة واحدة عن هذه الأسئلة - كسائر الأسئلة الواردة بهذا الشأن - وهي أنّ اطمئناننا الروحي إنّما يرتبط بنمط تفكيرنا وكيفية نظرتنا واعتقادنا بالنسبة للعالم الذي نعيش فيه، قبل أن يكون مرتبطاً بظواهرنا وأوضاعنا الجسدية.

إننا نقرأ في الفلسفة بأنّ حالاتنا الروحية وأنشطتنا الخارجية إنّما تنشأ على الدوام من صورنا الذهنية، فالحب والعشق والعداوة والقلق والاضطراب والخوف والخشية والسكينة والطمأنينة وكل جهد ونشاط من أنشطتنا البدنية إنّما تتمّ إثر تصورات تتجلّى في أفكارنا، وأنّها ستؤدّي إلى هذه الآثار حتى في حالة عدم انسجام تصوراتنا الذهنية مع الوقائع والحقائق العينية، والحال لا يكون الوجود العيني بمفرده (في حالة عدم انعكاسه في ذهننا) مصدراً للآثار البدنية والفعاليات الإرادية قط، ولكي تتضح هذه الحقيقة في أنّ طمأنينتنا واضطرابنا الروحي يتوقف على نمط تفكيرنا وعقيدتنا، نعقد مقارنة بين أسلوبين من التفكير :

 

النمط الاوّل للتفكير :

يرى الفرد المادي:

* أن وجودنا متصل من جانبيه بالعدم والفناء المطلق، فلم يكن أكثر من حفنة من المواد الآلية والمعدنية المتناثرة قبل مجيئنا إلى هذه الحياة الدنيا، كما لن يكون مصيرنا في المستقبل أحسن من ذلك، حيث سيتحول كل هذا الوجود الرائع وعقولنا المقتدرة وأفكارنا الجبارة وعواطفنا المرهفة ومشاعرنا الحارة، وهكذا كل مفردات حياتنا إلى هباء منثور بعد الموت، فما الذي سيبقى لدينا بعد ذلك؟ لا شيء، نعم لا شيء سوى حفنة من التراب والغازات السابحة في الفضاء!

* إننا على هامش الموت كالتاجر الذي تحرق كافة ثرواته أمام عينيه، ثم يحرق بعدها نفسه في النيران!

فالأمور من قبيل القصر الضخم والسمعة الحسنة وألواح التقدير والبناء التذكاري والشخصية التاريخية ـ وما إلى ذلك من المسميات الكاذبة والزائفة والشعور الفارغ بنوع من البقاء وديمومة الوجود ـ من نسج خيالاتنا الفارغة، وإلّا فما أثر هذه الأمور حين نتحول إلى الزوال والعدم؟! أصلا ماذا سنكون بعد الموت لنستطيع التمتع بهذه التشريفات الخالية من الروح فنشعر بالفخر والإعتراز؟ لعلنا نتلذذ بمثل هذه العناوين بعد الموت أننا ما زلنا على قيد الحياة، وإلّا فمن المسلم به أنّه سوف لن يبقى لنا أي أثر آنذاك.

ولعلهم إخترعوا مثل هذه العناوين لاستغفال الأحياء وسوقهم نحو العمل والتضحية والجد والمثابرة، لا على أنّها واقع وجزاء لمن ذهب، أفيستطيع من ذهب أن يدرك شيئاً من هذا الجزاء؟

لا يسعنا إلا أن نقول بأنّ هذه الأمور بالضبط أشبه بأن يؤتى بألف نوع ممّا لذّ وطاب من الأطعمة لتوضع أمام جثة هامدة، فما عساها أن تنتفع من ذلك؟

* حقيقة الأمر أن مجيئنا للدنيا لا يعدل زحماتها أبداً، فعدّة سنوات من العجز والجهل ولم يكد يشعر باللذة بشبابه حتى يدب إليه العجز والشيخوخة وأنواع الحرمان والأمراض الفتاكة التي تحيلنا إلى أعضاء مطرودين من المجتمع، إلى جانب تجاوزنا لكل ما حصلنا عليه من علم وفضل وثروة وأموال لنتجه نحو العدم المطلق، وإن كانت لنا عيون مفتوحة وأدنى شعور خلال هذه الحياة فإننا سنعيش في عذاب شديد لما نراه من تضييع للعدل واستفحال الظلم والتمييز، فهناك من لا يمتلك الرغيف من الخبز، بينما هنالك من تهب الآلاف لمراقبته والسهر على حفظه ورعايته قبل أن يخرج من بطن أمّه، فلو كان هناك حساب لما مات البعض جوعاً، بينما لا يعرف البعض الآخر كيف يقضي على ثروته الطائلة، فهو يمارس الأعمال الطائشة والأفعال التافهة بهدف التقليل من ثروته، كأن يشتري طابعاً بريدياً بقيمة مئة ألف دولار، أو يصرف مبلغاً ضخماً على قطته وكلبه!

لم هذا البؤس والشقاء الذي يعيشه الأطفال في المستشفيات، بينما تشهد دور البغاء والحانات سرور اللصوص ودبكهم ورقصهم؟

* قانون الجبر أو قانون العلية إنّما يحكم جميع وجودنا، بل جميع عالم الوجود بكل صلابة وشدة دون أي مرونة، فهو قانون أعمى لا يعرف معنى للرأفة والعدالة، وكأنّ تاريخ البشرية فضلاً عن تواريخ حياتنا قد دونت منذ الأزل ولا بدّ أن تنفذ بحذافيرها، والحال ليس لدينا أي اختيار للهرب من مخالب ما ينتظرنا من مصير.

* أفليس هناك من يسأل (و إن سأل فليس هناك من يجيب) ما سبب مجيئنا هنا، ولم لا بدّ لنا من مفارقة هذا المكان؟ فلم نُستشَر في مجيئنا ولا في ذهابنا، نعم معلوم أنّ الطبيعة لا تنطوي على أي هدف، فهي ليست أكثر من لعبة فارغة بدأت وانتهت ثم ليس هنالك فرد مادي يتخلف في تفكيره الفلسفي عمّا مرّ معنا سابقاً، ولا يخفى مدى القلق والاضطراب الذي يسيطر على الإنسان إذا تحلى بهذا النمط من التفكير، طبعاً ممكن أن يسعى أتباع هذه المدرسة إلى عدم الاستغراق في التفكير بشأن هذه الأمور، فيزجون أنفسهم في اُتون الحياة والانهماك في تفاصيلها ومفرداتها بحيث لا يبقى لديهم من مجال لظهور مثل هذه الأفكار، لكن بمجرّد أن تساورهم فرصة التفكير تهجم عليهم سيول هذه الأفكار الجارفة.

 

النمط الثاني للتفكير :

* إنّ هذا البناء الرائع الذي يصطلح عليه بالعالم هو من صنع العقل الكلي الذي خلقه لهدف وغاية، فهو يسير به لتحقيق ذلك الهدف، ولما كان ذلك المُبدئ العظيم هو مصدر إفاضة جميع الوجودات والقدرات فهو غني وليس له من حاجة إلينا البتة، وهو الذي خلقنا من أجل الهدف السامي المتمثل بالسمو والتكامل، ومن المفروغ منه أنّ مُبدىء بهذه الصفات سيعاملنا بمنتهى الرأفة والرحمة.

أفلم يزودنا بمختلف الإمكانات من أجل العيش برفاه وقد حبانا بأنواع النعم والبركات؟ بلى هو الذي خلقنا من أجل السمو والتكامل وقد منحنا كل الوسائل والإمكانات اللازمة لتحقيق ذلك، فإن واجهتنا بعض الكدورات والمعضلات علينا أن نعزي ذلك إلى عدم معرفتنا بقوانين الخلقة والإمكانات الواسعة المتاحة، أو عدم استخدامها بالشكل الصحيح على سبيل المثال نستطيع ومن خلال التعرف على قوانين الطبيعة والاستفاده من الإمكانات المتيسرة أن نبني دوراً لا تتأثر من قريب أو بعيد بالزلازل، كما يمكننا الالتزام بالتعليمات الطبيّة والوصايا الصحية والاستفادة من الطرق العلاجية للأدوية لنشهد حياة لا يعاني فيها الأفراد من أي نقص وعيب يصيب الأعضاء والبنية البدنية، وعليه فنحن المسؤولون عن العيب والنقص الذي يصيب أعضاءَنا وما نعانيه من بعض الكوارث والشدائد.

الاجحاف وتغييب العدل هو الآخر معلول لقوانيننا الاجتماعية الخاطئة في التوزيع، فإذا صححت هذه الأنظمة والقوانين الخاطئة زالت كافة أشكال الظلم والاجحاف، آنذاك يتمكن الجميع من العيش برفاه ورغد من العيش بالتالي لسنا آلات ماكنة لنؤدي حركاتنا وأعمالنا على سبيل الاضطرار، فقد زودنا بالإرادة والاختيار لنمارس حياتنا على ضوء تخطيطنا الصحيح أو الخاطىء، فلنا أن نحسن استغلال نعم الدنيا وفرصها أو نسيىء استخدامها، المصير هو الآخر يأبى التفسير على أساس الجبر والاكراه دون أن يكون للإنسان أي دور في تعيينه.

أمّا وجودنا فهو متصل من جانبيه بالأبدية وليس من شأن الموت قطع سلسلة تكاملنا الوجودي أبداً، وعلينا أن نستعمل العبارة «الانتقال إلى عالم أوسع» بدلاً من التعبير بالموت، العالم الذي نسبته إلى عالمنا كنسبة عالمنا لعالم رحم الأم، وبناءً على ذلك فإننا لا نفقد شيئاً حين الموت.

قطعاً لسنا عارفين بكافة أسرار الوجود، إلّا إننا نعلم كلما تكاملنا على صعيد العلم والمعرفة تكشفت لأعيننا حقائق أنصع عن نظام الوجود وما ينطوي عليه من جمال وروعة، وعليه فلا مبرر لأن يمارس ذلك المهندس الماهر أدنى عشوائية وظلم بحقنا.

إنّ وجودنا بأسره نحن البشر الذين نعيش على سطح الكرة الأرضية ليس إلّا كقطرة ماء فى فم طائر، فما عسى تأثير هذه القطرة على محيط لو حلق هذا الطائر وقذف بتلك القطرة؟ وعليه فإننا لم نخلق لنؤدّي خدمة لذلك الخالق العظيم، بل هو الذي خلقنا لإسعادنا طبعآ لسنا بصدد الحكم بأنّ أيّاً من هذين النمطين من التفكير هو  الصائب والصحيح من وجهة نظر الاستدلال الفلسفي، ونوكل هذا إلى الأبحاث القادمة.

والمراد فعلاً هو أي من هذين النمطين من التفكير (بغض النظر عن الاستدلالات الفلسفية» يمكنه أن يلبي حاجاتنا في تحقيق الطمأنينة الواقعية، وأي منهما يقذف بنا في عالم من التشاؤم وسوء الظن واليأس والملل والضجر والاحساس بالوحدة والغربة؟

الجواب واضح على هذا السؤال.

فهل نستطيع والحال هذه أن نكون غير مكترثين في اختيار واحد من هذين النمطين الفكريين رغم خطورة دورهما في صنع مصيرنا وتعيين عاقبتنا، أم هل يسعنا التغاضي عن أدلة أنصار كل نمط فكري بشأن عالم الوجود؟

ونختتم هذا البحث بالعبارات الرائعة التي أوردها الطبيب والجراح المعروف آرنست آدولف :

«لقد أدركت بعد هذا الخزين من التجارب أنّ عليَّ منذ الآن فصاعداً أن اُعالج جسم المريض باستعمال الوسائل الطبية والجراحية كما عليَّ أن أداوي روحه من خلال تقوية إيمانه بالله، فاعتمادي على الأدوية والعلاج والإيمان بالله إنّما يستند إلى المباني العلمية... وقد تزامنت تجاربي واستنتاجاتي هذه مع ظهور نوع من الصحوة في عالم الطب، والتي تتمثل بالتفات الأطباء للعامل النفسي للمرضى. مثلا ثبت اليوم لدى 80 % من المرضى الذين يقيمون في المدن الأمريكية المهمّة والذين يراجعون الأطباء بعض العوامل النفسية المهمّة، و ليس لنصف هؤلاء أي عارض بدني يدل على مرضهم، لابدّ من الالتفات هنا إلى أنّ الأطباء يرون هؤلاء الأفراد الذين لا يعانون أي مرض عضوي هم مرضى حقّاً، لا أنّهم متمارضون... ويرى علماء النفس والأطباء أنّ أهم أمراضهم تكمن في الذنب والضغينة وعدم التحلي بالعفو والصفح والخوف والاضطراب والفشل والحرمان وعدم العزم والإرادة والشك والترديد والكآبة، لكن لسوء الحظ فإنّ بعض أطباء النفس حين يتحرون أسباب هذه الأمراض فإنّهم وبسبب عدم إيمانهم بالله لا يتطرقون إلى هذه القضية أبداً»[1] .

 

[1] . إثبات وجود الله، ص 238 - 239.

captcha