مفاهيم ودلالات البسملة في القرآن الكريم

مفاهيم ودلالات البسملة في القرآن الكريم


المشهور بين جماعة من المفسرين أنّ صفة «الرّحمن» تشير إلى الرحمة الإلهيّة العامة، وهي تشمل الأولياء والأعداء، والمؤمنين والكافرين، والمحسنين والمسيئين، فرحمته تعمّ المخلوقات، وخوان فضله ممدود أمام جميع الموجودات.‌

دأبت الأمم والشعوب على أن تبدأ كل عمل مهم ذي قيمة بإسم كبير من رجالها أي أنّ أصحاب المؤسسة يبدأون العمل باسم تلك الشخصية، ولكن أليس من الأفضل أن يبدأ العمل في اُطروحة اُريد لها البقاء والخلود باسم وجود خالد قائم لا يعتريه الفناء؟

فصفة الخلود والأبدية يختص بها الله تعالى من بين سائر الوجودات، ومن هنا ينبغي أن يبدأ كل شيء باسمه وتحت ظله وبالإستمداد منه ولذلك كانت البسملة أوّل آية في القرآن الكريم.

والبسملة لا ينبغى أن تنحصر في اللفظ والصورة، بل لا بدّ أن تتعدّى ذلك إلى الإرتباط الواقعى بمعناها، وهذا الإرتباط يخلق الإتجاه الصحيح ويصون من الإنحراف، ويؤدي حتماً إلى نتيجة مطلوبة مباركة، لذلك جاء في الحديث النبوي الشريف: «كل أمر ذي بال لم يذكر فيه اسم الله فهو أبتر»[1] .

وفي تفسير الميزان عن الإمام محمّد بن علي الباقر(ع) قال: «... وينبغي الإتيان به عند افتتاح كل أمر عظيم أو صغير ليبارك به».

وبعبارة موجزة: فإنّ بقاء العمل وخلوده يتوقف على إرتباطه بالله.

من هنا كانت الآية الاُولى التي أنزلها الله على نبيّه الكريم تحمل أمراً لصاحب الرسالة أن يبدأ مهمّته الكبرى باسم الله: (آقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك)[2] .

ولذلك أيضا فإنّ نوحاً (ع) حينما أراد أن يركب السفينة في ذلك الطوفان العجيب، ويمخر عباب الأمواج الهادرة، ويواجه ألوان الأخطار على طريق تحقيق هدفه يطلب من أتباعه أن يردّدوا البسملة في حركات السفينة وسكناتها: (وَقَالَ آرْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ آللَّهِ مَجْرَيهَا وَمُرْسَيهَا)[3] .

وسليمان(ع) يبدأ رسالته إلى ملكة سبأ بالبسملة: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَـنَ وَإِنَّهُ بِسْمِ آللَّهِ آلرَّحْمَـنِ آلرَّحِيمِ)[4] .

وانطلاقا من هذا المبدأ تبدأ كل سور القرآن بالبسملة، كي يتحقق هدفها، وهو الأصل المتمثل بهداية البشرية نحو السعادة، ويحالفها التوفيق من البداية إلى ختام المسيرة. وتنفرد سورة التوبة بعدم بدئها بالبسملة، لأنّها تبدأ بإعلان الحرب على مشركي مكة وناكثي الإيمان، وإعلان الحرب لا ينسجم مع وصف الله بالرّحمن الرّحيم.

وطبيعي أنّ البدء باسم الله الذي تفوق قدرته كل قدرة، يبعث فينا القوة، والعزم، والثقة، والإندفاع، والصمود والأمل أمام الصعاب والمشاكل، والإخلاص والنزاهة في الحركة.

والإمام الصّادق(ع) قال: «ولربّما ترك في افتتاح أمر بعض شيعتنا بسم الله الرّحمن الرّحيم فيمتحنه الله بمكروه وينبّهه على شكر الله تعالى والثناء عليه ويمحو فيه عنه وصمة تقصيره عند تركه قول بسم الله»[5] .

بحوث

1ـ هل البسملة جزء من السورة؟ أجمع علماء الشيعة على أنّ البسملة جزء من سورة الحمد وكل سور القرآن، وكتابتها في مطالع السور أفضل شاهد على ذلك، لأنّنا نعلم أن النصّ القرآني مصون عن أي إضافة، وذكر البسملة معمول به منذ زمن النبي(ص).

أضف إلى ذلك، أنّ سيرة المسلمين جرت دوماً على قراءة البسملة في مطالع السور لدى تلاوة القرآن، وثبت بالتواتر قراءة النبي لها، وكيف يمكن أن تكون أجنبية عن القرآن والنبي والمسلمون يواظبون على قراءتها لدى تلاوتهم القرآن.

والمسألة واضحة إلى درجة كبيرة حتى روى صاحب السنن الكبرى: صلّى معاوية بالمدينة صلاة فلم يقرأ البسملة، فلما سلم ناداه من شهد ذلك من المهاجرين من كل مكان، يا معاوية! أسرقتَ أم نَسيتَ؟

2ـ لفظ الجلالة جامع لصفاته تعالى: إنّ كلمة «اسم» هي أوّل ما تطالعنا في البسملة من كلمات، وهو في رأي علماء اللغة من «السموّ» على وزن «العُلوّ»، ومعناه الإرتفاع.

وبعد كلمة الإسم نلتقي بكلمة «الله» وهي أشمل أسماء ربّ العالمين، فكل إسم ورد لله في القرآن الكريم وسائر المصادر الإسلامية يشير إلى جانب معين من صفات الله، والإسم الوحيد الجامع لكل الصفات والكمالات الإلهيّة أو الجامع لكل صفات الجلال والجمال هو «الله».

ولذلك اعتبرت بقية الإسماء صفات لكلمة «الله» مثل: «الغفور» و«الرّحيم» و«السميع» و«العليم» و«البصير» و«الرزّاق» و«ذوالقوّة» و«المتين» و«الخالق» و«الباري» و«المصوّر».

فكلمة «الله» هي وحدها الجامعة، ومن هنا اتخذت هذه الكلمة صفات عديدة في آية كريمة واحدة، حيث يقول تعالى: (هُوَ آللَّهُ آلَّذِى لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ آلْمَلِك آلْقُدُّوسُ آلسَّلَـمُ آلْمُؤْمِنُ آلْمُهَيْمِنُ آلْعَزِيزُ آلْجَبَّارُ آلْمُتَكَبِّرُ)[6] .

وأحد شواهد جامعية هذا الاسم أنّ الإيمان والتوحيد لا يمكن إعلانه إلّا بعبارة «لا إله إلّا الله»، وعبارة (لا إله إلّا القادر... أو إلّا الخالق... أو إلّا الرزّاق) لا تفي بالغرض.

3ـ الرحمة الإلهية الخاصة والعامة: المشهور بين جماعة من المفسرين أنّ صفة «الرّحمن» تشير إلى الرحمة الإلهيّة العامة، وهي تشمل الأولياء والأعداء، والمؤمنين والكافرين، والمحسنين والمسيئين، فرحمته تعمّ المخلوقات، وخوان فضله ممدود أمام جميع الموجودات.

وصفة «الرّحيم» إشارة إلى رحمته الخاصة بعباده الصالحين المطيعين، قد استحقوها بإيمانهم وعملهم الصالح، وحُرم منها المنحرفون والمجرمون.

لذلك فإنّ صفة «الرّحمن» ذكرت بصورة مطلقة في القرآن الكريم ممّا يدل على عموميتها، لكن صفة «الرّحيم» ذكرت أحيانآ مقيدة، لدلالتها الخاصّة، كقوله تعالى: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَّحِيمًا)[7] . وأحياناً اُخرى مطلقة كما في هذه السورة.

وفي الكافي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(ع) قال: «والله إله كل شيء الرّحمـن بجميع خلقه، والرّحيم بالمؤمنين خاصة».

4ـ اختصاص صفات الهية معينة بالبسملة

لِم لَم تَرد بقية صفات الله في البسملة؟ في البسملة ذكرت صفتان لله فقط هما: الرحمانية والرحيمية، فما هو السبب؟

الجواب يتضح لو عرفنا أنّ كل عمل ينبغي أن يبدأ بالإستمداد من صفة تعم آثارها جميع الكون وتشمل كل الموجودات، وتنقذ المستغيثين في اللحظات الحساسة.

هذه حقيقة يوضحها القرآن في الآية (156) من سورة الأعراف إذ يقول: (وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ).

ومن جانب آخر نرى الأنبياء وأتباعهم يتوسلون برحمة الله في المواقف الشديدة الحاسمة. فقوم موسى تضرعوا إلى الله أن ينقذهم من تجبّر فرعون وظلمه، وتوسلوا إليه برحمته فقالوا: (وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِك)[8] .

وبشأن هود وقومه، يقول القرآن: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَآلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحمَةٍ مِنَّا)[9] .

فإنّ أفعال الله تقوم أساساً على الرحمة، والعقاب له طابع استثنائي لا ينزل إلّا في ظروف خاصة، كما نقرأ في دعاء الجوشن الكبير المروية عن آل بيت رسول الله: «يا من سبقت رحمتُه غضبَه».

فالمجموعة البشرية السائرة على طريق الله ينبغي أن تقيم نظام حياتها على هذا الأساس أيضآ، وأن تقرن مواقفها بالرحمة والمحبة، وأن تترك العنف إلى المواضع الضرورية.

 

[1] . بحار الأنوار 73/305.

[2] . سورة العلق /1.

[3] . سورة هود /41.

[4] . سورة النمل /30.

[5] . بحار الأنوار 73/305.

[6] . سورة الحشر /23.

[7] . سورة الأحزاب /43.

[8] . سورة يونس /86.

[9] . سورة الأعراف /72.

captcha