حدّ التوكّل واليقين

حدّ التوكّل واليقين


الإنسان المؤمن لا يخشى لومة اللائمين ولا يأبه لاعتراضهم فيما لو كان يسير في طريق الهداية والإيمان ويتحرّك في طريق العبوديّة لله تعالى.‌

يقول الإمام الصادق(ع) :

«لَيْسَ شَيْءٌ إِلّا وَلَهُ حَدٌّ، قالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِداك فَما حَدُّ التَّوَكُّلِ؟ قالَ: الْيَقينُ، قُلْتُ : فَما حَدُّ الْيَقينِ؟ قالَ: أَلّا تَخافَ مَعَ اللّهِ شَيئا»[1] .

 

لقد أشار الإمام(ع) في هذه الرواية إلى ثلاثة أمور، ويحتاج كلّ واحد منها إلى شرح مختصر، هذه الأمور هي: التوكّل، اليقين، عدم الخوف ممّا سوى الله.

 

1. التوكّل

إنّ حقيقة التوكّل، تفويض الأمور إلى الله تبارك وتعالى، من قبيل أن نقول : «إلهي! أنا أبذل جهدي وأتحرّك في الحياة بما أعطيتني من قدرة وقوّة واستطاعة، وأسعى للسير في طريقك، ولكنّني لا أملك سوى قدرة محدودة وقوى ضعيفة ويغلبني هوى النفس ووساوس الشيطان واُواجه بسبب ذلك صعوبات جمّة في الحياة، فأعنّي على تحقيق ما تريده منّي وما هو فوق طاقتي وقدرتي»، هذه هي حقيقة التوكّل الذي يمدّ جذوره إلى التوحيد الأفعالي ويستمد مقوّماته منه.

عندما يعلم العبد أنّ جميع القوى والإمكانات في عالم الطبيعة بيد الباري تعالى، وأنه هو المتطلع والعالم بحال جميع الموجودات ومنها عباده البشر، وأنّه تعالى رحمان رحيم بالنسبة إلى جميع الموجودات والكائنات، ومع هذه العقيدة هل يعقل أن لا يتوسل إلى الباري تعالى ولا يفوّض أمره إليه؟

في معركة الخندق، وعندما ترددت في الأجواء صيحات عمرو بن ودّ العامري المتتالية وأصمّت أسماع المسلمين، ولم يبادر للتصدي له سوى الإمام عليّ بن أبي طالب(ع)، فأخذ النبيّ الأكرم(ص) بتجهيز عليّ بن أبي طالب(ع) للقتال والبراز ويضع بين يديه الإمكانات التي تساعده في هذا القتال وأرسله إلى الميدان، ولكنّه(ص) لم يقتنع بذلك بل أخذ يدعو الله تعالى لنصرة الإمام عليّ(ع) في موقفه وجهاده ويستمد من الباري تعالى ما هو خارج عن قدرته وما هو فوق طاقته[2] .

 

 2. اليقين

ويبيّن الإمام الصادق(ع) علامة التوكّل على الله تعالى، وهي اليقين، وعلى ضوء ذلك فالمتوكّل الحقيقي هو الذين يصل في مراتب الإيمان إلى مرتبة اليقين: (وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)[3] ، وهذا يعني أننا سوف نصبر على الأذى بما نملك من يقين على حقانيّتنا ولا نترك رسالتنا وسوف نستمر على هذا الطريق مهما واجهنا من أذى وذلك بالتوكّل على الله تعالى.

وتقديم جملة (عَلَى اللهِ) على (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) دليل على الحصر كما يستعمل في الأدبيّات العربيّة، يعني يجب التوكّل على الله تعالى فقط، والاستمداد منه وطلب الحاجات منه فقط، أجل، يجب الاستمداد لقضاء الحاجات من الغني على الاطلاق، لا الطلب من محتاج مثلنا وإلّا فلا نصل إلى مقصودنا ولا نحصل على غايتنا، وهذه الأمور تحتاج إلى حالة اليقين والذي هو من علامات التوكّل.

 

3. عدم الخوف ممّا سوى الله

ومن علامة اليقين، أنّ المتوكّل صاحب اليقين لا يخاف ولا يخشى ممّا سوى الله تعالى كما يقول الإمام(ع): «أَلّا تَخافَ مَعَ اللّهِ شَيئا»، ولا يخضع إلّا في مقابل عظمة الباري تعالى: (وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ)[4] ، فالإنسان المؤمن لا يخشى لومة اللائمين ولا يأبه لاعتراضهم فيما لو كان يسير في طريق الهداية والإيمان ويتحرّك في طريق العبوديّة لله تعالى.

فلو ألقينا نظرة على تاريخ الأنبياء الإلهيين : وسيرتهم الكريمة، فسوف نرى أنّ هؤلاء الأنبياء لم يكونوا يخشون إلّا الله تعالى، ولا يأبهون للوم المخالفين واعتراض المناوئين، وفي المقابل نرى أنّ الله تبارك وتعالى كان يتولّى معونتهم ويسدد خطاهم وينصرهم على أعدائهم بأسباب ووسائل ماديّة بسيطة، على سبيل المثال، نقرأ في معركة الخندق أنّ المشركين جمعوا كلّ قواهم وإمكاناتهم وعبأوا جميع ما يستطيعون لقتال الإسلام والمسلمين وجمعوا جميع المشركين والمخالفين للإسلام من كافة مناطق جزيرة العرب وتوجّهوا نحو المدينة المنورة، ولكن الله تعالى أمر الرياح بأن تسرع قليلاً في مسيرها، ومعلوم أنّ الهواء لو انقطع لحظة عن الإنسان لكان مصيره الموت والهلكة، وهكذا هبت الرياح نحو معسكر المشركين، ثم اشتدّت وتبدّلت إلى عاصفة بحيث إنّ سرعة الرياح كانت إلى درجة من الشدّة بحيث إنّها قلعت خيام المشركين وصعدت بها إلى عنان السماء وقلبت قدورهم وأطفأت نيرانهم، وكانت هذه العاصفة الرمليّة إلى درجة من الشدّة بحيث إنّ أحد المشركين لم يتمكن أن يرى الآخر ممّن معه، وهذا الأمر تسبّب في إيجاد الرعب والخوف العجيب بين المشركين، وعندما رأوا أنّهم بهذه الحال وأنّهم لا يستطيعون توفير الطعام لهم ولا إيجاد مكان يظلّهم وموضع لاستراحتهم، ولا يستطيعون رؤية بعضهم للبعض الآخر، استسلموا لهذا القدر واضطروا للانسحاب والتراجع نحو بيوتهم ومناطقهم وأذعنوا لهذه الفضيحة[5] .

أجل، إذا توكلّنا على الله تعالى ولم نخش من أي شيء ومن أي قوّة إلّا الله تعالى، فإنّه سيتولّى أمورنا ويسدد أقدامنا ويحفظنا بأبسط صور.

والمثال الآخر، ما ورد في المصادر التاريخيّة عن هجرة نبي الإسلام(ص) من مكّة إلى المدينة، فعندما رأى الباري تعالى نبيّه الكريم(ص) وهو في محاصرة أعداء الإسلام، وأنّ هؤلاء الأعداء يقصدون قتله والقضاء عليه وعلى الدعوة السماويّة، فحينذاك أراد الله تعالى حفظ نبيّه الكريم في مقابل المشركين من أعراب الجاهليّة وايصاله سالماً إلى المدينة ليستمر في نشر دينه وتمتد هذه الدعوة الإلهيّة إلى كافة مناطق المعمورة، وكان نصر الله تعالى لنبيّه بأيسر وسيلة، أي أنّه تعالى حفظ النبيّ بخيط بيت العنكبوت[6] ، ومن هنا يتبيّن أنّ الله تعالى إذا تعلّقت مشيئته بشيء فإنّه يستطيع أن يغير مسار التاريخ بعدّة خيوط تافهة من بيت العنكبوت، وعندما نؤمن بأنّ عندنا مثل هذا الإله القادر على كلّ شيء والرحيم بعباده فكيف نتوكّل على غيره ونستمد العون ممّا سواه أو نشعر بالخشية والخوف من الآخرين؟

إنّ درس التوكّل واليقين وانقطاع الناس إلى الله تعالى يجب أن نتعلّمه من فاطمة الزهراء (ع) وبنتها زينب الكبرى (ع) وحفيدتها الإمام زين العابدين(ع)، الذين عاشوا في ذروة الغربة والوحدة وتعرّضوا إلى تحديات جمّة ومواجهة جبال من الهمّ والغم بسبب فقد الأعزّة الأحبّة، ومع ذلك نرى أنّ هؤلاء الأولياء يقفون أمام هذه التحديات كالجبل الراسخ ويتحدّثون للناس بخطبة جليلة تعكس شدة يقينهم وارتباطهم بالله تعالى وعدم اهتمامهم بكلّ هذه التحديات الصعبة، في حين أنّ الأشخاص العاديين في مثل هذه المواقف غير قادرين على الكلام العادي فيما بينهم.

 

[1] . أصول الكافي، ج 2، ص 57، باب فضل اليقين، ح 1.

[2] . لمحات من تاريخ نبيّ الإسلام (فرازهايى از تاريخ پيامبر اسلام)، ص 336.

[3] . سوره ابراهيم الآية 12.

[4] . سورة المائدة، الآية 54.

[5] . اُنظر: لمحات من تاريخ نبي الإسلام (فرازهايى از تاريخ پيامبر اسلام)، ص 344.

[6] . استفدنا هذا الموضوع من الآية الشريفة 41 من سورة العنكبوت (إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت).

captcha