الغيرة ومكارم الأخلاق الأخرى

الغيرة ومكارم الأخلاق الأخرى


التقوى، بمثابة الكوابح التي تضبط مسار الإنسان وتلجم حصانه عن السقوط والانحدار في منزلقات الشهوات والسقوط في وادي الذنوب.‌

يقول الإمام الصادق(ع):

«...اِنَّ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَصَّ الاَْنْبياءَ بِمَكارِمِ الاَْخْلاقِ، فَمَنْ كانَتْ فيهِ فَلْيَحْمَدَ اللّهَ عَلى ذلِك، وَمَنْ لَمْ تَكُنْ فيهِ فَلْيَتَضَرَّعْ إِلَى اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلْيَسْأَلْهُ إِيّاها، قالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِداك وَما هُنَّ؟ قالَ: هُنَّ الْوَرَعُ وَالْقَناعَةُ وَالصَّبْرُ وَالشُّكْرُ وَالْحِلْمُ وَالْحَياءُ وَالسَّخاءُ وَالشَّجاعَةُ وَالْغِيْرَةُ وَالْبِرُّ وَصِدْقُ الْحَديثِ وَ أَداءُ الاَْمانَةِ»[1] .

أهميّة مكارم الأخلاق

إنّ أحد الأهداف المهمّة جدّاً للأنبياء الإلهيين، نشر الفضائل الأخلاقيّة في فضاء المجتمع البشري، وهذا هو ما ورد في الحديث النبوي المعروف: «بُعْثِتُ لاُِتَمِّمَ مَكارِمَ الاَْخْلاقِ»[2] ، وهذا يشير إلى الأهميّة البالغة لمكارم الأخلاق، فجميع الأنبياء الإلهيين مكلّفون بنشر الفضائل الأخلاقيّة والمثل الإنسانيّة وقد سعوا لتحقيق هذه الغاية بأفضل وجه وبما أمكنهم، ونرى أنّ نبيّ الإسلام(ص) في هذا الحديث الشريف قد اُمر بتكميل هذه المكارم والقيم الأخلاقيّة على صعيد الفرد والمجتمع.

ويشير الإمام الصادق(ع) في هذه الرواية إلى اثني عشرة مورداً من موارد الفضائل الأخلاقيّة المهمّة، والتي من شأنها أن تضمن للإنسان والمجتمع البشري خير الدنيا والآخرة وتتسبّب في تقوية النظام الاجتماعي، والسعادة والقرب إلى الله تعالى والنجاة بالآخرة، وبكلمة واحدة أنّها تتضمّن جميع هذه الأمور فيما يحقّق للإنسان الغاية المنشودة في واقع الحياة.

وهنا نستعرض شرحاً موجزاً لكلّ واحدة من هذه الفضائل الأخلاقيّة :

1. التقوى؛ وتقع التقوى على رأس جميع الفضائل الأخلاقيّة، وهي الحالة من الخوف والهيبة التي يشعر بها الإنسان في مقابل الباري تعالى والتي تدعوه إلى الابتعاد عن ارتكاب الذنوب ولا تسمح له أن يقف موقفاً حيادياً ولا اُباليّاً تجاه الإثم والخطيئة، وحالة التقوى بمثابة السدّ القوي في مقابل السيول الهدامة والمخرّبة للأهواء والشهوات والنوازع النفسانيّة، ومن شأن هذا السدّ أن يعيق تلوّث الإنسان بالذنوب ويمنعه من ارتكاب الخطايا.

التقوى، بمثابة الكوابح التي تضبط مسار الإنسان وتلجم حصانه عن السقوط والانحدار في منزلقات الشهوات والسقوط في وادي الذنوب.

 

2. القناعة؛ حالة القناعة من شأنها أن تمنع من التلوّث بالكثير من الذنوب والخطايا، لأنّ حالة الحرص هي العامل الأساس لكثير من حالات الذنوب، والكثير من حالات الرشوة، والاحتكار، التسول وأمثال ذلك، تنبع من حالة الحرص في الإنسان الذي يسير في خطّ الدنيا والنوازع الماديّة، فالكثير من الأشخاص المتسولين لا يستعطون الناس بسبب حاجتهم للمال، بل إنّ حالة الحرص والطمع هي التي تدفعهم إلى هذا السلوك، فالحرص هو الذي يقود الكثير من الناس إلى ارتكاب الذنوب، والقناعة في الجهة المقابلة هي الحالة التي ينبغي للإنسان التحلّي بها لمواجهة الحرص والطمع في نفسه.

 

3. الصبر؛ الصبر والمثابرة والاستقامة في مقابل الأهواء النفسانيّة، والدوافع الشيطانيّة التي تقود الإنسان نحو ارتكاب الذنب والخطيئة، وكذلك حالة الصبر الاستقامة في مقابل الصعوبات والتحديات التي يواجهها الإنسان في حركة الحياة، وكذلك في مجال الطاعة والعبوديّة وتهذيب النفس والتحلّي بالقوّة والاستقامة في مقابل المصائب والحوادث الصعبة والمرّة في الحياة، كلّ ذلك يعتبر فضيلة مهمّة من الفضائل الأخلاقيّة التي ينبغي للإنسان أن يتحلّى بها في واقع الحياة.

 

4. الشكر؛ ومن جملة الفضائل الأخلاقيّة المهمّة التي ينبغي للإنسان أن يتحلّى بها في حياته حالة الشكر لله تعالى على نعمه ومواهبه، والشكر كلّ نعمة يعني الاستفادة الصحيحة والسليمة من تلك النعمة، ولو أنّ الإنسان استخدم النعم الإلهيّة والمواهب الربّانيّة عليه بشكل صحيح، مثلاً استخدم عينه واُذنه ولسانه وماله وثروته وعلمه ومعرفته وأبناءه وأمثال ذلك في المجال الصحيح، فهذا يعني أنّه قد أدّى شكر هذه النعم الإلهيّة عليه.

 

5. الحلم؛ الإنسان الذي يتحرّك باتجاه التحلّي بالفضائل الأخلاقيّة، ينبغي عليه أن يرتدي ثوب الحلم في مقابل الأشخاص الجهلة والأراذل من الناس، وأن يتسع صدره لما يلاقيه من السفلة والجهلة من كلمات بذيئة وأفعال لا مسؤولة، وبذلك يكون حليماً في تعامله مع الناس ويتعامل مع الآخرين بكرامة ويمرّ على اساءتهم مرور الكرام.

 

6. الحياء؛ وسبق أن تحدّثنا عن الحياء في الحلقة السابقة.

 

7. السخاء؛ الإنسان المؤمن لا ينبغي يتصرف ويستخدم جميع إمكاناته وأمواله لنفسه وقضاء حاجاته فقط، بل يجب أن يشرك الآخرين فيما يملكه من نعم ومواهب إلهيّة عليه ويسمح للمحتاجين والمحرومين بالاستفادة من هذه الإمكانات والنعم التي خصّها الله تعالى به ولا يحتكرها لنفسه، وبذلك يتحلّى هذا الشخص بفضيلة السخاء والجود.

 

8. الشجاعة؛ إنّ الشجاعة تعدّ رمزاً للنصر، فالأشخاص الذين وصلوا إلى مراتب عالية في حياتهم المعنويّة والاجتماعيّة وحقّقوا الفوز والتوفيق في معيشتهم وحياتهم، هم الأشخاص الذين طردوا حالة الخوف والجبن من أنفسهم وتقدّموا بخطوات شجاعة في مسارهم ومن أجل تحقيق غاياتهم.

 

9. الغيرة؛ وسوف نتحدّث عن هذه الفضيلة الأخلاقيّة بالتفصيل لاحقاً.

 

10. البرّ؛ وهو حالة الإحسان ومساعدة الآخرين، والتي تمثّل أهم عبادة في المفاهيم الدينيّة، ولذلك وردت روايات وأحاديث كثيرة عن الأئمّة المعصومين فيما يخصّ خدمة الناس والإحسان ومدّ يد العون لعباد الله[3] .

 

11. صدق الحديث؛ ومن الفضائل الأخلاقيّة الأخرى الذي ينبغي للإنسان المؤمن أن يتحلّى بها في واقع الحياة، الصدق في القول والعمل.

 

12. أداء الأمانة؛ وهذه الصفة الأخلاقيّة، وهي أداء الأمانة إلى درجة من الأهميّة أنّ التعاليم الإسلاميّة أوصت بها وأكّدت عليها حتّى بالنسبة لغير المسلمين[4] .

 

وهذه الصفات الأخلاقيّة الاثنا عشر، والتي بيّنها الإمام(ع) في سطر واحد أو سطرين، تتضمّن عالماً واسعاً من القيم والفضائل الأخلاقيّة، وفي الحقيقة إذا تحقّقت هذه القيم الأخلاقيّة في فضاء المجتمع البشري فإنّ هذا المجتمع سيتحوّل إلى جنّة مزدهرة، ويتصوّر البعض أنّ القيم الأخلاقيّة والالتزام بالتعاليم الدينيّة تنفع الإنسان في حياته الأُخرويّة فقط، في حين أنّ هذا النمط من التصوّر مجانب للصواب، لأنّ القيم الأخلاقيّة والتعاليم الدينيّة نافعة للإنسان والمجتمع البشري في الدنيا أيضاً، بل إنّ قوام حياة الإنسان والمجتمع البشري يقوم على أساس الأخلاق والالتزام بالقيم الأخلاقيّة كما يقول الشاعر :

 

إِنّ المَكارِمَ أخلاقٌ مُطَّهِرةُ         فَالدِّينُ أَوّلُها والعِقلُ ثَانيها

والعلمُ ثَالثُها والحِلمُ رابِعُها         والجُودُ خَامِسُها والعُرفُ سَادِسُها

وَالبِرُّ سَابِعُها والصّبرُ ثَامِنُها         والشُّكرُ تَاسِعُها واللّينُ عَاشِرها[5]

 

فلو أنّ المجتمع البشري فقد حالة التقوى في نفوس أفراده، ولم تحكم القناعة على نفوس الناس، ولم يتحلّ الناس بفضيلة الصبر والحلم والسخاء والحياء والشجاعة، ولم يشعروا بالغيرة تجاه الدين والعرض ولا يوجد في أجواء المجتمع خبر من حالات الإحسان والأمانة والصدق، فهل يمكن أن نسمي مثل هذا المجتمع بأنّه مجتمع حيّ؟

 

الغيرة

ومن بين هذه المكارم الأخلاقيّة الاثني عشر نكتفي بشرح وتفسير ملكة الغيرة، وقد ورد في رواية عن الإمام الصادق(ع) وقال: «إِنَّ اللّهَ تَبارَك وَتَعالى غَيُورٌ يُحِبُّ كُلَّ غَيُورٍ»[6] ، وعلامة غيرة الباري تعالى أنّه حرّم جميع القبائح والأعمال الذميمة، سواءً الخفيّة منها أو العلنيّة.

وجاء في حديث آخر عن رسول الله(ص) أنّه قال: «الْغَيْرَةُ مِنَ الاْيمانِ»[7] ، وعلى ضوء ذلك، فإنّ الشخص الذي لا يملك صفة الغيرة فلا إيمان له ولا يعدّ محبوباً عند الله.

الغيرة، التي ترد كثيراً في كلام الناس، بكلمة موجزة عبارة عن: «الاصرار على حفظ القيم»، فالأشخاص الذين يتحرّكون في حياتهم من موقع العميق بحفظ القيم ويصرّون عليها وأحيانآ مستعدون للتضحية بنفوسهم في سبيل تثبيت هذه القيم في واقع الحياة الفرديّة والاجتماعيّة، هؤلاء الأشخاص هم الغيورون، وأحد القيم الأخلاقيّة حفظ النواميس، وعادة يرى الناس أنّ الغيرة بهذا المعنى فقط في حين الغيرة لها معنى واسع.

الأشخاص الذين لا يتحرّكون على صعيد حفظ النواميس والأعراض ولا يهتّمون بمراقبة الداخل والخارج وليس لهم خبر من الأصدقاء والجلساء ومع من يتكفّلونه ويعينونه، هؤلاء لا يملكون الغيرة الإنسانيّة والإسلاميّة، والأشخاص الذين يعيشون حالات الإصرار في الدفاع عن وطنهم ومن أجل حفظ بلدهم وجميع ما فيه من إمكانات وخيرات، والأشخاص الذين يجدون في أنفسهم الاستعداد الكامل للتضحيّة في أنفسهم في سبيل الدفاع عن القرآن والدين، ويسعون باستمرار لحفظ قيم الثورة الإسلاميّة، التي هي ثمرة وعصارة دماء مئات الاُلوف من الشهداء ومن التضحيات والإيثار لهذا الشعب الكبير، هذه كلّها تعدّ من مصاديق الغيرة، والأشخاص الذين يعيشون اللامبالاة تجاه هذه الأمور، فهم عديمو الغيرة.

وجاء في حديث أنّ الله تبارك وتعالى أراد أن يعذّب من العصاة والمتمردين فأرسل لهم ملائكة العذاب لكي يتهيأوا في تلك الليلة في ذلك الموقع والمكان، وعند الصباح ينزلون العذاب الإلهي على هؤلاء المجرمين، عن أبي عبدالله(ع) قال:

«إِنّ اللهَ بَعَثَ مَلَكَينِ إِلى أَهلِ مَدِينةٍ لَيُقَلَّباها عَلى أَهلِها، فَلّما انتَهيا إِلى المَدِينةِ وَجَا رَجُلاً يَدعُو اللهَ وَيَتَضرَّعُ إِلَيهِ، فَقَالَ أَحَدُهُما للاخرِ: تَرى هَذا الدَّاعِي، فقَالَ: قَدْ رَأَيتُهُ وَلَكن أَمضَي لَما أَمَرَ بِهِ رَبِي، فَقَالَ: وَلَكِنِّي لا اُحدِثُ شَيئآ حَتّى ارجَعَ إِلى رَبِّي، فَعَادَ إِلى اللهِ تَباركَ وَتَعالى فَقَالَ: يارَبِّ انتَهيتُ إِلى المَدِينَةِ فَوجَدتُ عَبدَك فُلانآ يَدعُوك وَيَتَضرّعُ إِلَيك، فَقَالَ: وامضي لِما أَمَرتُك بِه فَاِنَّ ذلِك رَجُلٌ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَجْهُهُ غَضَباً لِي قَطٌّ»[8] ، أي أنّ هذا الشخص وطيلة عمره لم يتأثر ولم يغضب لما يراه من ارتكاب الآخرين للمعاصي والذنوب، وبما أنّه عديم الغيرة فإنّه يستحق العقاب رغم أنّه من أهل الدعاء والمناجاة.

وعلى ضوء ذلك ينبغي على الجميع أن يتّخدوا موقفاً حاسماً في مواجهة ارتكاب المحرمات وترك الواجبات ويتصدوا للمنكرات وحالات الانحراف الاجتماعي ويجدوا في أنفسهم غضباً وردّة فعل تجاه هذه الأعمال والسلوكيات الشائنة، وإلّا فإنّهم لا يتحلّون بالغيرة وبالتالي يستحقون العذاب الإلهي.

 

[1] . أصول الكافي، ج 2، ص 56، باب المكارم، ح 3.

[2] . بحار الأنوار، ج 70، ص 372.

[3] . اُنظر: أصول الكافي، ج 2، ص 192 فصاعدآ، باب قضاء حاجة المؤمن.

[4] . اُنظر: المصدر السابق، ص 104، باب الصدق وأداء الأمانة، ح 1.

[5] . مجاني الأدب، ج 2، ص 48.

[6] . ميزان الحكمة، ج 7، ص 3108، باب 3143، ح 15563.

[7] . المصدر السابق، ص 3107، الباب 3142، ح 15551.

[8] . بحار الأنوار، ج 14، ص 509، ح 37.

captcha